لا.. لم تكن أول مرة نشاهد فيها الوجوه المفزوعة والعيون المشدوهة والشعور المنكوشة المعفرة بغبار الأنقاض..
لا. ليست أول مرة نسمع فيها صراخ طفل فوق ركام منزله ينادي على أهله النيام إلى الأبد تحت الجدران وبين أغراض البيت الدفين بذكريات الفرح والضحك وابتسامات الاحبة وجلساتهم و يوميات حياتهم الحافلة..
لم تكن أول مرة نرى أمهاتٍ يفترشن الأرض بجانب ركام يعرفن أن أحباءهن تحته ..دفنوا وهم أحياء ، لا لجرم ارتكبوه ولكن لأنهم ضعفاء لا مخالب لهم ولا أنياب تقضم الحبائل وتكسر الحواجز .
من أقصى الحزن ..لأقصى الحزن في الشرق المنهوب إلى الغرب المؤجّر بعقود إذعان ليكون للغرباء حصص أبناء البلد المحروقين المجوّعين المذلولين المسخّرين إلى أدنى درجات العبودية.
لم يكن أول زلزال لا يتحرك أمامه ضمير العالم لتقديم المساعدة للمنكوبين.
ولا أول مرة يمارس فيها حكم الشنق على الجثة ويطلق فيها سراح القتلة..
ولا أول مرة يعاد فيها صلب مسيح آخر بل ألف مسيح.
لقد سقطنا جميعاً..
لقد سقطنا جميعاً..
كلنا سقطنا في هاوية الخراب.. تطاير دخاننا وانطلقت رائحة هزائمنا …
كلنا نزحنا عن أحبابنا وعن مواعيد الفرح.. كلنا تطايرت أوراقنا الثبوتية فوق حواجز الاغتراب فضاعت معالم وجوهنا ..كلنا وقفنا في طوابير القهر نحمل أوعيتنا الفارغة وننتظر رضا الضمائر الميتة!
كلنا حُجزنا خلف أسلاك الخوف، وبين جدران الصبر واختنقت أصوات استغاثاتنا.. كلنا شوهت الحرب نفوسنا فبتنا ننظر بكراهية لكل من لا ينتمي لنا ..كلنا بترت الحرب أمنياتنا فغدت شوهاء تجلس على قارعة الأمل تتوسل ما بقي من الرجاء ..كلنا ضيعتنا الحرب، وأخذت هوياتنا زورتها استبدلتها، ووضعت لنا علامات حاقدة لتشعرنا أننا أبناؤها غير الشرعيين..
وحدها الحرب القاسية نجت من الزلزال! وخرجت من تحت ركامها لتزدهر فوق فقرنا وعرينا وتنضج حول خيامنا وعلى مواقد مقاعدنا وفي حساء قهرنا اليومي.. وحدها الحرب كانت البطلة.. أما نحن، فكلنا أصبحنا في عداد المفقودين.
.
.