كذب الأميركيّون .. ولو صدقوا !
جمال دملج ..
|| Midline-news || – الوسط ..
ربّما كان أحد أكثر الأمثلة تناسقًا مع سلوكيّات القادة الأميركيّين الذين تسلّموا مقاليد الحكم في البيت الأبيض لدى تعاطيهم مع الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين على مدى السنوات الستّ عشرة الماضية هو ذلك المثل الشعبيّ الذي يقول : “عوضًا عن أن يكحّلها .. عماها “، ولا سيّما أنّ تجلّيات هذه السلوكيّات التي غالبًا ما كانت تُظهر بوضوحٍ تحكُّم النزعة ” الجيمسبونديّة ” بكافّة تفاصيلها ، ظلّت تعود على مريديها بنتائجَ عكسيّةٍ ، سواءٌ كانوا برأس حمارٍ ديمقراطيٍّ أم برأس فيلٍ جمهوريٍّ ، الأمر الذي ينطبق ببساطةٍ على ما اتّسم به خطاب الرئيس باراك أوباما من سذاجةٍ نهار أوّل من أمس الخميس في ولاية أوهايو ، وخصوصًا عندما تمّت الإشارة إلى الرئيس بوتين بصفته رئيسًا سابقًا للجنة أمن الدولة السوفييتيّة ( كي جي بي ) ، على رغم أنّه لم يشغل هذا المنصب في حياته من قبل .
أوباما الذي كان يسعى إلى حشد الرأي العامّ الأميركيّ لصالح رفيقته الديمقراطيّة هيلاري كلينتون في معركتها الانتخابيّة ضدّ غريمها الجمهوريّ دونالد ترامب ، قال أمام أنصار حزبه في إشارةٍ إلى مؤيّدي ترامب : ” إنّهم يقفون ضدّ روسيا ، ولكنّهم يفضّلون ترامب الذي يَعتبر فلاديمير بوتين ، رئيس الكي جي بي السابق ، نموذجًا يُحتذى به ” ، وكأنّه بهذا الكلام ” عماها ” عوضًا عن أن ” يكحّلها ” ، نظرًا لأنّ بوتين كان خلال الحقبة السوفييتيّة موظّفًا في جهاز المخابرات الخارجيّة التابع للكي جي بي ، وليس رئيسه ، علاوةً على أنّ اسم الجهاز الأمنيّ الذي تولّى منصب الرئاسة فيه بين عاميْ 1998 و1999، أي بعد تفكّك الاتّحاد السوفييتيّ، هو ( إف إس بي ) وليس ( كي جي بي ) .
على هذا الأساس ، فإنّ أوباما يستحقّ من السخريّة ما يتناسب مع خيباته المتتاليّة وأكثر ، ولا سيّما أنّ شعار التغيير الذي رفعه منذ بداية ولايته الرئاسيّة ، لم يؤهّله حتّى الآن لتحقيق أيّ تغييرٍ في السلوك الأميركيّ ، المبنيّ أساسًا على توجّهاتٍ أسخريوطيّةٍ ، تجاه القضايا والملفّات الدوليّة والإقليميّة الشائكة ، وعلى الأخصّ في مجال العلاقات الأميركيّة – الروسيّة ، نظرًا لأنّ النزعة ” الجيمسبونديّة ” الآنفة الذكر هي التي ظلّت تتحكّم وتستبدّ بتلك التوجّهات ، من دون الأخذ في الاعتبار البديهيّة القائلة بأنّ ” لاعب الجيدو ” عندما يقرّر أن يضرب فوق حلبة السياسة الدوليّة ، فإنّ ضربته ستكون موجعةً من دون أدنى شكّ ، وخصوصًا إذا كان خصمه في النزال مجرّد ” راقص تانغو ” ، لا يتقن من فنون القتال سوى الهزّ والغمز واللفّ والدوران .
وإذا كان لسان حال التطوّرات الميدانيّة الجارية على الساحة السوريّة في هذه الأيّام سيبقى حتّى إشعارٍ آخر أبلغ من الكلام ، فإنّ ثمّة إشارةً لا بدّ من التطرّق إليها في هذه العجالة ، ومفادها أنّ هزيمة الإرهاب التكفيريّ ومشتقّاته الظلاميّة ، سواءٌ داخل سوريا أم خارجها ، لم يكن ليقدَّر لها أن تصبح حتميّةً ووشيكةً أكثر من أيّ وقتٍ مضى ، لو لم تقم روسيا ، انطلاقًا من سوريا ، بتصويب إبرة بوصلة الحرب الدوليّة على الإرهاب اعتبارًا من يوم الثلاثين من شهر أيلول (سبتمبر) العام الماضي ، وما نجم عن ذلك من رياحٍ صارت تجري يومًا بعد يومٍ بعكس ما تشتهي سفن الولايات المتّحدة، وخصوصًا من جهة إسقاط القناع الزائف عن وجه الحقيقة التي تكشف أنّ الأميركيّين هم الذين صنعوا الإرهاب للادّعاء بأنّهم يريدون محاربته، وهي الحقيقة التي لم تعد خافيةً على أحد .
في هذا السياق ، قد يكون من المفيد التذكير هنا بما كشفت عنه صحيفة الـ ” برافدا ” الروسيّة في عددها الصادر بتاريخ السابع من شباط ( فبراير ) العام الماضي بشأن اعتزام الرئيس بوتين إطلاق ما لديه من أدلّة تثبت تورّط السلطات الأميركيّة ، بمن فيها وكالة المخابرات المركزيّة ، في هجمات الحادي عشر من أيلول ( سبتمبر ) عام 2001 على كلٍّ من برجيْ مركز التجارة العالميّ في نيويورك ومقرّ وزارة الدفاع ( البنتاغون ) في واشنطن ، عن طريق نشر ما بحوزة السلطات الروسيّة من صور الأقمار الصناعيّة التي تمّ التقاطها في ذلك اليوم التاريخيّ الرهيب ، الأمر الذي يتناسق إلى حدّ التوأمة مع نتائج استطلاعات الرأي التي غالبًا ما أظهرت طيلة السنوات الماضية أنّ نصف الشعب الأميركيّ لا يصدّق الرواية الرسميّة الصادرة عن حكومته بخصوص تلك الهجمات .
تعالوا لنتخيّل معًا ما يمكن أن يحْدثه هذا الزلزال السياسيّ ، وحجم الهزّات الارتداديّة التي يمكن أن تنجم عنه ، ليس ضمن المساحة الجغرافيّة التي تتشكّل منها الولايات المتّحدة وحسب ، وإنّما على طول خارطة العالم وعرضها ، أغلب الظنّ أنّ العرض سيبدأ بمؤتمرٍ صحافيٍّ يعقده باراك حسين أوباما أمام ” كلاب حراسة الديمقراطيّة ” ، أي الصحافيّين المعتمدين في البيت الأبيض ( على حدّ توصيف كبيرتهم السابقة هيلين توماس في كتابها الشهير الذي يحمل التوصيف نفسه عنوانًا له ) ، يشكّك فيه الرئيس الأميركيّ بصدقيّة الرواية الروسيّة ونزاهتها ، ويردّد المرّة تلو الأخرى تلك النغمة المستحدَثة التي لا أساس لها من الصحّة حول ” تراجع الحريّات العامّة واضطهاد الأقلّيّات والانقضاض على المبدأ الديمقراطيّ “… إلخ ، قبل أن يضطرّ إلى التراجع بشكلٍ تدريجيٍّ في مؤتمراتٍ لاحقةٍ أمام سيل جارفٍ من الأدلّة القاطعة التي ستصدر تباعًا عن قصر الكرملين من أجل التأكيد على ما لا يُحبِّذ أوباما سماعه، ليجد الرئيس الأميركيّ نفسه في نهاية المطاف مجبرًا على إلقاء اللوم في ما حصل في أيلول على أبناء جلدته في الحزب الجمهوريّ ، الأمر الذي من شأنه إعادة إبرة البوصلة الأميركيّة إلى اتّجاهها الصحيح ، ولا سيّما أنّ إحدى أهم تجلّيات ما أدّى إلى إصابة العملاقيْن الأميركيّيْن ( العسكريّ في واشنطن والاقتصاديّ في نيويورك ) بجروح الحادي عشر من سبتمبر ، إنّما جاءت نتيجةً لتلك المناطحة الداخليّة الشهيرة التي شهدتها معركة الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة عام 2000 بين رأس الفيل الجمهوريّ ورأس الحمار الديمقراطيّ … ومَنْ منكم لا يذكر كيف تعطّلت أجهزة فرز الأصوات الالكترونيّة ( ما أدّى إلى القيام بعمليّات العدّ يدويًّا في أكبر دولةٍ تكنولوجيّةٍ في العالم ) ، ويدرك ولو إلى درجةِ الحدّ الأدنى من اليقين ، لغاية يومنا الراهن ، كيف تمكّن جورج دبليو بوش من الفوز على غريمه آل غور في تلك الدورة الانتخابيّة ، فليرجمني بألف حجر .
وإذا كان من الطبيعيّ أن يبدأ سيل الأسئلة بالتمحور حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه ردّات فعل الأميركيّين تجاه ما مارسته معهم إداراتهم المتعاقبة على سدّة الرئاسة في البيت الأبيض من أساليبِ تضليلٍ وخداع ، وما إذا كان بإمكان هذا المدى أن يؤدّي حقًّا إلى الإطاحة بكفّتيْ ميزان النظام القائم والمتعارف عليه في لعبة الحكم بين الجمهوريّين والديمقراطيّين ، فإنّ ما قد يخرج عن المألوف في سياق هذا السيل الجارف هو : هل سيبقى النزال بين لاعب الجيدو الروسيّ وراقص التانغو الأميركيّ محصورًا في إطار ملفّ هجمات الحادي عشر من سبتمبر وحسب ، أم إنّه قد يخرج ليطال ملفّات أخرى ، كأن يخرج الشيخ جابر الأحمد الصباح من قبره ليطالب باسترجاع المليارات التي نهبها الأميركيّون من الخزنة المخبّأة تحت سطح البحر مقابل ميناء الأحمدي ، نقدًا وسبائكَ ذهبيّةً وسنداتِ خزينة ، خلال عمليّة ” عاصفة الصحراء ” عام 1991 ، أو أن يكشف الرئيس الباكستانيّ الأسبق الجنرال براويز مشرّف عن حجم الضغوط التي مارسها عليه نائب الرئيس الأميركيّ ديك تشيني قبيل افتتاح موسم ” الحرب على الإرهاب ” في أفغانستان عام 2001، ليحذو الرئيس الصوماليّ الأسبق عبد القاسم صلاد حسن حذوّه ويلفظ بصوتٍ عالٍ ما ظلّ يردّده همسًا عن الصفقة التي فرضها عليه السفير الأميركيّ السابق في جيبوتي دونالد ياماموتو في كانون الثاني ( يناير ) عام 2002 من أجل تغطية وصول جماعة ” المحاكم الإسلاميّة ” إلى السلطة ، بما يضمن شرعنة وجود الأساطيل الأميركيّة في مياه المحيط الهادي ، وبالتالي استمرار تحكّمها بالمنافذ البحريّة في باب المندب وخليج عدن ؟.
ماذا لو قرّر الروس كشف النقاب عن التفاصيل الكاملة المتعلّقة بتعرّض موكب بعثتهم الديبلوماسيّة لهجومٍ بالرصاص على أيدي القوّات الأميركيّة قرب الحدود العراقيّة – السوريّة في تموز ( يوليو ) عام 2003 ، وعن هويّة الشخصيّة التي كانت مستهدفةً في ذلك الهجوم ، وما إذا كان صاحب هذه الشخصيّة هو صدام حسين أم لا ؟.
وماذا لو نُشرت صور الأقمار الصناعيّة لعمليّة التفجير التي استهدفت في الشهر نفسه مقرّ بعثة الأمم المتّحدة في “فندق القناة” في بغداد وأودت بحياة العشرات، بمن فيهم سيرجيو دي ميللو، الممثّل الخاصّ للأمين العامّ للمنظّمة الدوليّة، وهو الذي كنتُ قد التقيتُ به في المقرّ نفسه قبل اغتياله بأقلّ من أسبوعٍ، وقال لي أمام عدسة كاميرا “قناة العربيّة” التي أوفدتني وقتذاك إلى بغداد ما قاله بشأن استيائه من إصرار الأميركيّين على تهميش دوره في العراق؟ ، وماذا لو تحدّث الأخضر الإبراهيمي الذي زار العاصمة العراقيّة لاحقًا حول كلّ ما لديه من معطياتٍ حول عمليّة التفجير ؟ .
وفي سياق الحديث عن بلاد الرافدين ، ثمّة ما يفتح الشهيّة الصحافيّة للتطرّق إلى تفاصيلَ أخرى في غاية الأهميّة ، مثل سرّ وصول أبو مصعب الزرقاوي وضحيّته الأولى الأميركيّ نيكولاس بيرغ إلى العراق وظهورهما معًا في وقتٍ واحدٍ ، وما لعمليّة الذبح الوحشيّة والمشينة التي تعرّض لها بيرغ على أيدي الزرقاوي من علاقةٍ على صعيد تحقيق الرغبة الأميركيّة في العمل ، إعلاميًّا ، على تشويه صورة المقاومة العراقيّة التي كانت تضرب وقتذاك بيدٍ من حديدٍ بقيادة عزت إبراهيم الدوري ، وهو نفس الرجل الذي حاول الأميركيّون في وقتٍ سابقٍ من عام 2014 إقحام اسمه في ما يمارسه تنظيم ” داعش ” من وحشيّةٍ وإجرامٍ في كلٍّ من سوريا والعراق .
صحيحٌ أنّ هذا الزمن هو زمن الغرابة الأميركيّة بامتيازٍ ، ولكنّه زمن الأقمار الصناعيّة أيضًا ، وزمن الكشف عن حقائق الأشياء ومعانيها .
وإذا كان من غير الممكن التوقّف بإسهابٍ في هذه العجالة عند كافّة القضايا والملّفات الدوليّة التي من شأنها الإطاحة بصدقيّة الروايات الرسميّة الأميركيّة حولها ، مثل أزمة كوسوفو أو أزمة دارفور ، وما بين الأزمتين من حكاياتٍ شيّقةٍ حول محاكم جرائم الحرب الدوليّة ومشتقّاتها الاستخباراتيّة ، فإنّ ما لا شكّ فيه هو أنّ العالم ، من أقصاه إلى أقصاه ، سيتعرّض لزلزالٍ سياسيٍّ من العيار الثقيل إذا ما صدقت الـ ” برافدا ” وحكى بوتين ، ولا سيّما أنّ أجواء المعركة الانتخابيّة الحاليّة بين الديمقراطيّين والجمهوريّين تُشبه إلى حدٍّ كبيرٍ أجواء معركةِ انتخاباتِ ما قبل هجماتِ الحادي عشر من سبتمبر ..
الـ “برافدا ” تعني الحقيقة ، وللحقيقة وجهٌ واحدٌ لا أكثر ولا أقلّ .
*كاتب لبناني