كتابة القلق (1) … بو زينون الحكيم

كتابة القلق (1) تأملات
بين حدث الولادة وطقس البهجة، وحدث الموت وطقسه الجنائزي تبدأ رحلة الإنسان في الحياة، إنسياباً حيناً، أو دحرجة حيناً، أوصعوداً وهبوطاً في أحيان أخرى. كل حياة هي بحدّ ذاتها سجل للقلق أو للخوف أو لكليهما معاً، والقلق والخوف فاعلان منتِجان في عملية تفاعل تبادليّة بين الإنسان والوجود، ولكل منهما منتـَجُه منذ فجر التاريخ المحفوظ في الكهوف، إلى المدون منه على جدران المعابد والهياكل والمرافق العامة.
إن تجليّات القلق في الإنسان المبدع هي غالباً أسئلة كبرى في الوجود وأسراره -بوصفه الكائن العاقل في حدود المتاح معرفته في العالم – أسئلة تبحث عن أسئلة وعن إجابات في الغايات والأهداف والجدوى من خلق كائن عاقل، مصيره المحتوم الفناء.
في المقابل كان الخوف ومايزال يحفرعميقاً في الوعي والوجدان، متنحياً عن مواجهة وتقبل فكرة الموت، مسعفاً وجوده المؤقت ومصيره المحتوم بمخيال يبتكر له عالماً متفوّقاً على الفناء بالخلود الأبدي.
“هو الذي رأى كل شيء إلى تخوم الدنيا.. رأى أسراراً خافية، وكشف أسراراً خبيئة…ثلثاه إله وثلثه بشر”.
ذلك هو الملك السومري “جلجامش” (2600 ق.م) بن لوجال بندا، الملك الرابع لأوروك بعد الطوفان، والبطل المتفرّد في أول أسطورة في التاريخ المكتوب، والمحتفي بأيقونة القلق الإنساني ـ الموت – وبحثه عن الخلود.
هل كان هاجس جلجامش الموشوم بحزنه العميق على فقدان صديقه “أنكيدو” فكان الشرارة والبذرة الفلسفية الأولى التي تفتقت في الوعي أسئلة ًوجودية كبرى لاحقاً، في محاولة لفهم فعل الموت وتجاوزه، وبحثاً عن الخلود، وعن إجاباتٍ شافية لمعنى الوجود؟!
كان صراع الآلهة “الميثولوجي” قدبلغ أقصاه في مرحلة منقضية قريبة، فأغرقت الأرض بالطوفان، لتهلك من يعيث فيها فساداً، ولولا فـُلك بطل الطوفان السومريّ “أوتنابشتيم”، أوفلك نسخته الأخرى، النسخة الدينية اللاحقة، لما كنا نكتب الآن قلقنا الوجوديّ الجليل، ونحتفي بثباتِ سيرورتنا وانسيابها نحو النهاية الحتم، الموت والغياب الأبدي. فمنطقية القانون البيولوجي التي حددت حياة الذبابة بـ (120 يوماً) منحتنا عاماً في مقابل كل يوم من أيام البعوض والحشرات التي تعطي خلال جيل واحد الآلاف من مثيلاتها. ولو أخذنا بالعمر الميثولوجي الإنساني لرأينا كيف تضاعف العمر الإنساني المقدس أضعافاً في بداية التاريخ، محاكاة للمعجزة وخرقاً لقوانين الطبيعة.
هذا الشرق المثخن بالخطايا وبالفرص الضائعة في الحياة، وبشهوانية حياة بلا نهاية، منذ بداية التاريخ بدأ بحثاً عن عالم “آخر” يعوّض فيه مافاته في الحياة الدنيا، عالم يمارس فيه طقوس الندم، ويستدرك في حياة افتراضية تالية مافاته، فالجسد منغرس في عيش محدود، متسربل بنزعات الشهوة والسطوة، والوعي متهافت، لاهٍ عن إدراك معنى قيمٍ ومعانٍ وأهدافٍ كامنة في صميم وجوده.
في عالم الخلود سنلتقي بطل الطوفان “أوتنابشتيم”، الذي أنقذ الحياة على الأرض مما أضمرت لها الآلهة، أو نلتقي نسختة الأخرى المقدسة، وبصرف النظر عن التيقـّن من شخصية البطل المنقذ، فما يعنينا أننا موجودون، نتمايز أو نتشابه بألوان الخوف وأخاديده المحفورة في أعماقنا، ونتوارث ونورّث قلق وجودنا الجميل..
يسأل بطلُ الطوفان أوتنابشتيم جلجامشَ، وقد حلّ عليه ضيفاً في خلوده بعد رحلة مضنية:
“إلى أين تمضي ياجلجامش
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها
(في البدء) اجتمع الأنوناكي العظام
وزّعوا الحياة والموت
ولم يكشفوا لحيّ عن يومه الموقوت”.
فيعاجله جلجامش بشيء من الاستغراب من مشهد مقرّ خلوده المنعزل الموحش:
“أنظر إليك يا أوتنابشتيم
فأراك شكلك عادي وأراك مثلي
ولكن ها أنت متـّكئ على جنبك أو قفاك
فقل لي كيف صرت مع الآلهة”.
أوتنابشتيم:
“الآلهة لما خلقت البشر
جعلت الموت نصيبا لهم
وحبست في أيديها الحياة”
أما “سيدوري”، ساقية حان الآلهة، فتدعوه قبل لقائه بطل الطوفان، موحية إليه بفكرة تقبّل الموت في عالم الواقع:
“افرح ليلك ونهارك
دلـّل صغيرك الذي يمسك بيدك
و اسعد زوجك بين أحضانك
هذا نصيب البشر في هذه الحياة”
في نهاية رحلة جلجامش “الذهنية” التي تقبّل أو استسلم فيها لحتمية الموت، يخاطب ملاّحَ الطّوفان من على أسوار أوروك:
“أي أورشنابي اعلُ سورأوروك، امش عليه، المس قاعدته، تفحّص صنعة آجرّه، أليست لبناته من آجرّ مشويّ، والحكماء السبعة من أرسى له الأساس؟
الآلهة هم وحدهم الخالدون في مرتع الشّمس
أما البشر فأيامهم معدودة على هذه الأرض”.
كتابة القلق
للباحث الأستاذ فراس السواح مقاربة نافذة لثنائية الحياة/ الموت، في الملحمة.. يقول:
“لقد قبـِل جلجامش الموت لأنه شرط لقبول الحياة واستنفاد ممكناتها”، معتبراً أن رحلة جلجامش وبحثه عن الخلود رحلة حُلمية، مجردة من زمان ومكان واقعيين.
:”إنني أكتب قلقي وأجري خلفه”… هذه العبارة عن كتابة القلق ، نطقت بها أسطورة الملك السّومري بطريقة أو بأخرى، وقد عاد بخيبة الموت من رحلة البحث عن الخلود، حتى أن بنتَ الأرض أكلت أمله وحلمه بتجديد الحياة والعودة إلى الشباب في طريق عودته.
ومن المناسب الإشارة والسؤال هنا عن طبيعة ومعنى خلود “أوتنابشتيم” هناك خلف البحار العميقة، وفي جزيرة مهجورة معزولة، وتلفـّها السكينة المضجرة! العزلة المجردة من الزمان، من أمل يوقظ الاستفزاز والقلق والشّعورَبالحياة.. العزلة إلى مالانهاية.
لاحقاً في هذا الشّرق الطيب لامكان للموت العدمي، أو للقلق من الفناء، فالحضور القويّ الراسخ للخوف والهلع من الفناء والعدم مشروط بانفتاح عالم الخلود على مصاريعه، والكهنوت الأرضي والسّماوي رسم للإنسان خط سير الرّحلة السّعيدة إلى العالم الآخر، وشدّ إلى كاهله حقيبة أفعاله، وأمدّه بزاد كافٍ للرّحلة المجهولة، وبأواني من ذهب وفضة، وبأجور النقل في رحلته السّعيدة الغامضة. وشادَ له برازخ ومحطات للانتظار وللرّاحة من عناء السفر.
إن الكهنوت بعامّة قضى على القلق من المصير الفاني، وأبقى على خوف لافكاك منه، من لحظة الانتقال وآلام مخاض تحرّر الرّوح من عالم الفساد والدّنس.
المفارقة أن أبناء اللاّهوت الذين يرفضون العدمّية، بالعدمّية إيّاها، يحكمون ويحاكمون كل خروج عن عقائدها، وفرادى وجماعات يبعثون بهم إلى خلود الجحيم!
ببراعة التأويل، وبحريّة التمتـّع بحريّة التـّبوء نسخاً دنيوية ونواباً لآلهة الغيب، يقرّر الوكلاء أن الحرّية ضرب من العبث والمجون العقلي، وأن العبوديّة قدرٌ وواجب أعلى من السّؤال وأقدس من خلوات وتأملات العقل.
وكتابة القلق لها تأملات تالية تتيع…
.