إضاءاتالعناوين الرئيسية
كازانوفا كما يراه دمروش.. ترجمة حيّان الغربي

كازانوفا كما يراه دمروش.. ترجمة حيّان الغربي
الوجه المظلم لمبدأ اللذة عند كازانوفا بمعايير اليوم، مغتصب ومجرم، كازانوفا كما يراه دمروش- 19 أيار 2022.
“المغامر جياكومو كازانوفا، حياته وأوقاته”- كتاب في 432 صفحة من تأليف ليو دمروش، منشورات جامعة ييل.
بالنسبة للكثيرين من معجبيه، يجسّد جياكومو كازانوفا، الذي عاش ما بين العامين 1725 و1798، شكلاً محدداً من أشكال الحرية، فقد أظهر الرجل صلابةً وثباتاً في تبعيته لمذهب اللذة وانغمس في شهواته في تحدّ سافر للعادات والتقاليد الاجتماعية والنفاق الأخلاقي..
اشتهر كازانوفا بإقراره علناً بخلاعته وإباحيته، وقد تبنى فلسفة تقول بأن المتعة “هدية من الله” وأنه لمن المريع الاعتقاد بأن الله يتمتع “بالآلام والمآسي والتعفف مما يكابده الناس في سبيله”. ووفقاً لما يرويه ليو دمروش في كتابه هذا، الذي يقدم فيه سيرةً ذاتيةً جديدةً للرجل، أدخله هذا الأسلوب في دائرة من العنف إلى حدّ ما، ففضلاً عن كونه قد مارس الإغواء التسلسلي بمقاييس القرن الواحد والعشرين، كان كازانوفا مغتصباً ومجرماً أساء معاملة الأطفال ومخادعاً داعراً سافلاً إلى أبعد حد. علاوةً على ذلك، كان جياكومو حكواتياً ساحراً كما يبدو من كتاب سيرته الذاتية الذي ألّفه بنفسه “مذكرات جاك كازانوفا- Histoire de ma vie”، الذي لا يظهره بوصفه نسخةً أصليةً من زير النساء وحسب، وإنما يقدم أيضاً بعضاً من أكثر الحكايات حيويةً ومشهديةً في تصويره للحياة في أوروبا القرن الثامن عشر. ولد كازانوفا في مدينة البندقية، التي كانت حينذاك جمهوريةً مستقلةً تحوّلت قبل مدةٍ طويلةٍ من قوّة بحرية إلى قِبلةٍ سياحيةٍ، الأمر الذي نجحت فيه بصورةٍ رئيسيةٍ نتيجةً لتوفيرها الضمانات بالتستر على هويات اللاهثين خلف المتعة اللاشرعية إلى حدًّ ما.
.
أظهر كازانوفا، المولود لأبوين من ممتهني التمثيل في مدينة البندقية أو مدينة الأقنعة، ميلاً طبيعياً إلى التلاعب بهويته بسرعةٍ ويسر. ومنذ نعومة أظفاره، أدرك ذلك الفتى الذكي والطموح أنه سيتوجب عليه لعب الكثير من الأدوار المختلفة إرضاءً لشهواته ونهمه، فلعله يتمكن من عيش حياةٍ تنسجم مع نظرته لنفسه كفرد من الطبقة الأرستقراطية، وهي المكانة التي لم يثنه عدن نيله لها بالوراثة عن القيام بانتحالها مراراً وتكراراً بالاعتماد على المواهب والمقدرات التي تمتع بها، فتارةً قدّم نفسه كفرد من النبلاء أو الضباط وطوراً ادّعى أنه ساحرٌ أو خبيرٌ مالي أو مهندس، وهو سلوك يعتبر إجرامياً أو انتهازياً على أقل تقدير بمعايير يومنا هذا. ولا تقلّ النساء في عالم كازانوفا عنه رغبةً في المغامرة الجنسية، كما تظهرن نزوعاً جامحاً بقدر نزوعه نحو تحدي العادات الاجتماعية من حيث التعلّق بإرضاء شهواتهن. وعلى هذا الصعيد حصراً، يمكن النظر إلى كازانوفا بوصفه نموذجاً أول للنسويين نتيجةً لإقراره، بل واحتفائه، بالرغبة الجنسية لدى المرأة. بيد أنه، كما يشير السيد دمروش، ليس بمقدورنا تصديق الرواية التي يحكيها جياكومو حول مسيرته الشهوانية، فعادةً ما تستبعد فتوحاته بطبيعتها أي إحساس بتبادل المشاعر أو بموافقة الطرف الآخر.
.
وعلى حدّ تعبير السيد دمروش: “لقد طمح كازانوفا إلى عيش حياةٍ متحررةٍ من القيود، ولكن على حساب من؟ الجواب واضح لدرجةٍ مؤلمة نظراً لعشرات الضحايا المغدورات المخدوعات اللواتي هُجرن بعدما أسيئت معاملتهن واللواتي تزخر صفحات مذكراته بحكاياتهن. يبدي المؤلف حرصاً كبيراً على ترصّد ذنوب كازانوفا، ولعلنا نورد كنموذج عن هذا التعقب ما يصف به المؤلف حالة شراء طفلةٍ في الربيع الثالث عشر من عمرها بغاية استغلالها جنسياً، إذ يقول في هذا الصدد ما يلي:
“يبدو في هذا تعام عن أحلك التعقيدات التي وسمت سلوكه”. ولكن في نهاية المطاف، يبدو أن هذه النقمة منقوصةً مع ذلك، فلماذا يتوجب على القراء المعاصرين الاكتراث لرجل تبدو ملاحقته للمتعة في الزمن الراهن أمراً شائناً أكثر بكثير مما هو تحرري؟ رجل لا يعي الحرية إلا بوصفها الحرية في تدمير مشاعر الآخرين؟ لا يستميح الكتاب أي عذر لأنانية كازانوفا ولا يتواطأ بأي مقدارٍ مع قسوته، ولكنه مع ذلك يخفق في تقديم نقدٍ متماسكٍ لأجواء عدم المساواة التي استغلها الرجل. إن ليو دمروش، في هذا الكتاب الغني والمسلّي بصفةٍ عامة، يستأصل أية صورةٍ حسنةٍ ربما تكون سائدةً عن كازانوفا من جذورها، بيد أنه مع ذلك يعجز عن سوق حجةٍ قويةٍ يقنع من خلالها القارئ بتأييد وجهة نظره هذه. *نشرت هذه المقالة بعنوان “اللذة اللاشرعية” في الصفحة الثقافية- النسخة الورقية لصحيفة “اكونومست”.
“المغامر جياكومو كازانوفا، حياته وأوقاته”- كتاب في 432 صفحة من تأليف ليو دمروش، منشورات جامعة ييل.
بالنسبة للكثيرين من معجبيه، يجسّد جياكومو كازانوفا، الذي عاش ما بين العامين 1725 و1798، شكلاً محدداً من أشكال الحرية، فقد أظهر الرجل صلابةً وثباتاً في تبعيته لمذهب اللذة وانغمس في شهواته في تحدّ سافر للعادات والتقاليد الاجتماعية والنفاق الأخلاقي..
اشتهر كازانوفا بإقراره علناً بخلاعته وإباحيته، وقد تبنى فلسفة تقول بأن المتعة “هدية من الله” وأنه لمن المريع الاعتقاد بأن الله يتمتع “بالآلام والمآسي والتعفف مما يكابده الناس في سبيله”. ووفقاً لما يرويه ليو دمروش في كتابه هذا، الذي يقدم فيه سيرةً ذاتيةً جديدةً للرجل، أدخله هذا الأسلوب في دائرة من العنف إلى حدّ ما، ففضلاً عن كونه قد مارس الإغواء التسلسلي بمقاييس القرن الواحد والعشرين، كان كازانوفا مغتصباً ومجرماً أساء معاملة الأطفال ومخادعاً داعراً سافلاً إلى أبعد حد. علاوةً على ذلك، كان جياكومو حكواتياً ساحراً كما يبدو من كتاب سيرته الذاتية الذي ألّفه بنفسه “مذكرات جاك كازانوفا- Histoire de ma vie”، الذي لا يظهره بوصفه نسخةً أصليةً من زير النساء وحسب، وإنما يقدم أيضاً بعضاً من أكثر الحكايات حيويةً ومشهديةً في تصويره للحياة في أوروبا القرن الثامن عشر. ولد كازانوفا في مدينة البندقية، التي كانت حينذاك جمهوريةً مستقلةً تحوّلت قبل مدةٍ طويلةٍ من قوّة بحرية إلى قِبلةٍ سياحيةٍ، الأمر الذي نجحت فيه بصورةٍ رئيسيةٍ نتيجةً لتوفيرها الضمانات بالتستر على هويات اللاهثين خلف المتعة اللاشرعية إلى حدًّ ما.
.
أظهر كازانوفا، المولود لأبوين من ممتهني التمثيل في مدينة البندقية أو مدينة الأقنعة، ميلاً طبيعياً إلى التلاعب بهويته بسرعةٍ ويسر. ومنذ نعومة أظفاره، أدرك ذلك الفتى الذكي والطموح أنه سيتوجب عليه لعب الكثير من الأدوار المختلفة إرضاءً لشهواته ونهمه، فلعله يتمكن من عيش حياةٍ تنسجم مع نظرته لنفسه كفرد من الطبقة الأرستقراطية، وهي المكانة التي لم يثنه عدن نيله لها بالوراثة عن القيام بانتحالها مراراً وتكراراً بالاعتماد على المواهب والمقدرات التي تمتع بها، فتارةً قدّم نفسه كفرد من النبلاء أو الضباط وطوراً ادّعى أنه ساحرٌ أو خبيرٌ مالي أو مهندس، وهو سلوك يعتبر إجرامياً أو انتهازياً على أقل تقدير بمعايير يومنا هذا. ولا تقلّ النساء في عالم كازانوفا عنه رغبةً في المغامرة الجنسية، كما تظهرن نزوعاً جامحاً بقدر نزوعه نحو تحدي العادات الاجتماعية من حيث التعلّق بإرضاء شهواتهن. وعلى هذا الصعيد حصراً، يمكن النظر إلى كازانوفا بوصفه نموذجاً أول للنسويين نتيجةً لإقراره، بل واحتفائه، بالرغبة الجنسية لدى المرأة. بيد أنه، كما يشير السيد دمروش، ليس بمقدورنا تصديق الرواية التي يحكيها جياكومو حول مسيرته الشهوانية، فعادةً ما تستبعد فتوحاته بطبيعتها أي إحساس بتبادل المشاعر أو بموافقة الطرف الآخر.
.
وعلى حدّ تعبير السيد دمروش: “لقد طمح كازانوفا إلى عيش حياةٍ متحررةٍ من القيود، ولكن على حساب من؟ الجواب واضح لدرجةٍ مؤلمة نظراً لعشرات الضحايا المغدورات المخدوعات اللواتي هُجرن بعدما أسيئت معاملتهن واللواتي تزخر صفحات مذكراته بحكاياتهن. يبدي المؤلف حرصاً كبيراً على ترصّد ذنوب كازانوفا، ولعلنا نورد كنموذج عن هذا التعقب ما يصف به المؤلف حالة شراء طفلةٍ في الربيع الثالث عشر من عمرها بغاية استغلالها جنسياً، إذ يقول في هذا الصدد ما يلي:
“يبدو في هذا تعام عن أحلك التعقيدات التي وسمت سلوكه”. ولكن في نهاية المطاف، يبدو أن هذه النقمة منقوصةً مع ذلك، فلماذا يتوجب على القراء المعاصرين الاكتراث لرجل تبدو ملاحقته للمتعة في الزمن الراهن أمراً شائناً أكثر بكثير مما هو تحرري؟ رجل لا يعي الحرية إلا بوصفها الحرية في تدمير مشاعر الآخرين؟ لا يستميح الكتاب أي عذر لأنانية كازانوفا ولا يتواطأ بأي مقدارٍ مع قسوته، ولكنه مع ذلك يخفق في تقديم نقدٍ متماسكٍ لأجواء عدم المساواة التي استغلها الرجل. إن ليو دمروش، في هذا الكتاب الغني والمسلّي بصفةٍ عامة، يستأصل أية صورةٍ حسنةٍ ربما تكون سائدةً عن كازانوفا من جذورها، بيد أنه مع ذلك يعجز عن سوق حجةٍ قويةٍ يقنع من خلالها القارئ بتأييد وجهة نظره هذه. *نشرت هذه المقالة بعنوان “اللذة اللاشرعية” في الصفحة الثقافية- النسخة الورقية لصحيفة “اكونومست”.
.