رأي

قضية جوى .. وفصول قتلها الثلاث .. أدهم الطويل ..

  لماذا نشر التلفزيون السوري اعترافات القاتل المقززة ثم اعتذر عن فعلته؟..

قضية جوى .. وفصول قتلها الثلاث ..

 

بكثير من البشاعة والحقارة اغتصب أحد الشاذين أخلاقيا وجنسياً طفلة من مدينة حمص السورية، لمَّا تتجاوز الأربع سنوات، ثم قتلها بطريقة أبشع من الاغتصاب ورمى بها قرب مكب للقمامة.

المجرم كان اختطف الطفلة من أمام متجر في حي المهاجرين الحمصي، وبعد الخطف والاغتصاب والقتل قالت الجهات المختصة في حمص إنها ألقت القبض على الفاعل الذي اعترف بجريمته؛ اعترافات قامت وسائل إعلام (حكومية) ببث هذه الاعترافات المقززة والبشعة.

الاغتصاب والقتل وبث الاعترافات بالشكل الذي جاءت فيه، عناوين متقاربة لفصول هذه المأساة التي تحوَّلت بسبب بشاعتها النادرة من جهة، وبسبب غياب إعلام فاعل ومسؤول من جهة أخرى، إلى قضية رأي بل أراء عامة شديدة التنوع والتناقض والتشدد، قال فيها الفيسبوكيون السوريون ما لم يقله مالك في الخمر.

بدايةً .. نبدأ من (الفصل) العنوان الثالث لهذه المأساة ؛ وهو أكثر ما يهمنا في هذا العرض ،عنوان بث اعترافات المجرم وبعض تفاصيل اغتصابه لجوى على شاشة التلفزيون.

إن مشاهد القتل وتفاصيل ارتكاب الجرائم واعترافات القتلة والعبارات التي تسمي الأعضاء الجنسية والجمل التي تخدش وتهين الحياء وإنسانية الإنسان، كلها قضايا دار ومازال يدور حول نشرها أو عدم نشرها، منذ عقود، جدلٌ قانوني مهني في مؤسسات التشريع الغربية وكذلك في وسائل الإعلام الكبرى المؤثرة التي تبث سيلاً جارفاً من الأخبار والمشاهد في أربع جهات الارض، وهي قضايا لم يُتفق عليها بشكل مطلق، هذا مهنياً ، أما أخلاقياً، فأكاد أجزم إن نشر مثل هذه المشاهد والتفاصيل المقززة أمر غير مقبول على مستوى كل المجتمعات تقريبا.

أما عندنا، ما الذي حدث ويحدث؟، وكيف تعاملت وسائل إعلامنا مع هذه القضية _ المأساة، الشائكة مهنياً؟.

قبل الاجابة على هذا السؤال الشائك بدوره، لابد من بعض السرد التاريخي، فكلنا يعلم أن وسائل الإعلام الحكومية واستناداً إلى وظيفتها “عدم زعزعة الاستقرار الاجتماعي للمجتمع وعدم إثارة الشبهات حول الأمن والأمان الاجتماعي السائد، الذي ينعم به المجتمع”، استناداً إلى ذلك كانت هذه الوسائل دوماً لاتنشر أية أخبار حول جرائم القتل والاغتصاب وغيرها من الجرائم الاجتماعية إلا إذا جاءتها من (مصادر الجهات المختصة)، وكانت الجهات المختصة تلك مطمئنة الى أنها المصدر الوحيد لهذه الأخبار، ومطمئنة الى ان وسائل إعلامنا لن تلجأ الى مصادر أخرى حتى لو شهدت بعض الجرائم بأم عينها، وبالفعل كانت الصحف الحكومية تعد صفحات أسبوعية (إخبارية) عن جرائم، عثرت الجهات المختصة “سلفاً” على مرتكبيها واعترفوا بالجريمة ومثلوها في أقبية الاعتراف، وهي أخبار: “كيف سرق س- ق مصاغ زوجة أبوه، وكيف نزل ج-ب  على بنت  الجيران، وكيف قتل ك-ص أبوه بسبب الورثة”.

هذا في الإعلام المطبوع ،أما الإعلام التلفزيوني فقد كان نجمه الوحيد علاء الدين الأيوبي، رحمه الله، خصوصاً أن الجهات المختصة كانت تدفع اليه بكل المجرمين الذين صرفوا المسروقات على ملذاتهم الشخصية، وكانوا بين يديه يعترفون بكل أركان الجريمة وعلى الهواء مباشرة ويتابع الجمهور هذه القصص الحكومية المشوقة، والتي كانت إذاعة دمشق تحول بعضها الى “حكم العداااااله”.

أما بعيداً عما كانت تنقله وسائل الإعلام المكتوبة وماتبثه الشاشة الحكومية، كان هناك الكثير من المجرمين، قتلة وسارقين وشاذين جنسيا يرتكبون جرائم تشبه جريمة الاعتداء على الطفلة جوى، ولاترى الجهات المختصة ضرورة لإعلانها، ولايُصرَّح لوسائل الإعلام بنشرها.

إن مأساة الطفلة جوى؛ وهي ضحية كل أركان المجتمع، من الأسرة وصولاً إلى الجهات المختصة، مأساة جوى ليست الأولى من نوعها، وأنا هنا لا أحاول التقليل من حجم الجريمة وبشاعتها، لكن أسوق ذلك للتوقف عند مسألتين اثنتين.

إن مجتمعنا قبل الحرب وقبل انتشارالفيس بوك ودبيكة الفيس بوك، لم يكن مجتمعاً مثالياً من حيث الأخلاق والقيم ومثل التربية والتعامل مع الاطفال، ففيه مثل كل المجتمعات الشرقية، الكثير من جرائم الاعتداء على الطفولة، ولم نكن نسمع بها، إما بسبب تكتم ذوي الضحية، أو لعدم اهتمام الجهات المعنية بالقبض على الفاعلين، وهي لم تكن ولا هي اليوم ، كما زُعِمَ في قضية جوى، تعيش تحت أي ضغط للرأي العام، أو لأن الإعلام لاينشرها لأسباب عدة أبرزها أنه لم يُصرَّح له بذلك.

بالمقابل، في قضية الطفلة جوى، الجهات المختصة لازالت هي نفسها، بل ربما تراجع دورها عما مضى من حيث السرعة والحزم، نظراً لازدياد حجم ونوع الجرائم في المجتمع السوري بسبب الحرب، وإعلامنا الحكومي هو نفسه وعلى حاله من حيث المساهمة في إرساء الاستقرار الاجتماعي، وإن  تراجع بعض الشيء في الأدوات، ولم يعد لديه حتى علاء الدين الأيوبي، لكن المُعطى الذي اختلف في تفاصل مأساة جوى هو تحولها دون علم وربما دون رغبة أهلها، إلى قضية رأي عام على صفحات الفيس بوك ووسائل الإعلام الإلكتروني غير الرسمي، حتى قبل إلقاء القبض على القاتل، وتحول غياب الطفلة البريئة إلى “مزاد إنساني” بين الناشطين على الفيس يعبرون فيه، اضافة إلى رقة قلوبهم وإنسانيتهم،  عن وعيهم الاجتماعي العالي لمعاني الطفولة والطرق الحديثة في تربية الأطفال وعدم تركهم عرضة للاختطاف، وجاء العثور على جثة الطفلة جوى ليفجر صفحات الفيس بوك، ويفجر مايمكن تسميته عنوة الرأي العام السوري الذي (بحياته ماتفجر، أقصد من الناحية الاجتماعية)، وهو أمرٌ دفع الجهات المختصة وسعياً لتهدئة هذا الرأي، إلى إلقاء القبض على المجرم ، ذلك وفق ما زعمته حرفيا إحدى الناشطات على الفيس بوك.

واللافت في هذا العنوان أو الفصل الثاني لمأساة جوى؛ فصل التأكد انها مقتولة بعد العثور على جثتها، ان وسائل الإعلام (الحكومي) لم تتفاعل مع الموضوع، إلا بالحد الأدنى، وإخبارياً فقط، رغم اتساع نشاط الفيس ووسائل الاعلام الالكتروني، التي حققت مع القاتل وحاكمته وأأصدرت عدة قرارات بإعدامه، منها الشنق ومنها الحرق ومنها تقطيع الأوصال.

في الفصل الثالث من المأساة، مأساة جوى، انتبهت الجهات الإعلامية المختصة بعد الجهات الجنائية المختصة أن القصة كبرت، وحوّلها الفيس بوكيون _ شئنا أم أبينا_  إلى كرة ثلج، وأنه لابد من اللحاق بركب الإعلام ، ومواكبة قضية جوى، لكن صح عليه المثل القائل (إجى يكحلها قام عماها)، يعني الجهات المختصة (تحت الضغط أو بدون ضغط ) تمكنت؛ لاحظوا كلمة تمكنت؛ من القبض على المجرم ، ولو بعد أيام، رغم أنه من سكان الحي وصاحب شبهات وسوابق.. المهم حققت معه واعترف بجرائم الخطف والاغتصاب والقتل، وحكى عن أفعاله الشنيعة، لكن تحت اي اعتبار مهني تنشر الجهات الإعلامية المختصة كل تفاصيل اعتراف القاتل؟، وما اهمية ومهنية ان يسمع الناس ذلك الكلام المقزز؟، الم بخطر في بال الذي أوعز بالبث عيون امها لجوى ومشاعر أبوها وأقرانها من الأطفال؟.

هناك من تحدث عن اجتهاد مهني لم يُصِب صاحبه، لكن مع ذلك له أجر شرعاً، وهناك من اعتبر انها محاولة فاشلة لتحقيق سبق إعلامي في قضية رأي عام تلقى متابعة واسعة، وتبقى محاولة.

لكن يقول محللون أخرون، ياليت الأمر كما سبق، بمعنى أنه ليت كان هناك نقاشاً مهنياً نتج عنه قرار بتغليب النشر على عدمه، إنما الامر لامحاولة ولا اجتهاد، بل هو أن الجهات المختصة الأولى اوعزت إلى الجهات المختصة الإعلامية بنشر الاعترافات، فقامت هذه الأخيرة اوتوماتيكياً بنشر الاعترافات كما هي دون تدقيق ولامونتاج؛ باعتبار ان ذلك يقع على مسؤولية الجهات المختصة الأولى، وهي رواية اقرب الى الصواب ـ لأن إعلامنا الذي عاد واعتذر لأهل جوى عن “خطأ ” نشر الاعترافات، ليس سيد نفسه مهنياً، ولايقرر بل يُملى عليه، ليس لانه تابع للحكومة فحسب، بل لأنه تابع بشكل “صاغر” لكل الجهات المختصة الأخرى، الداخلية، القانون، الاقتصاد، التموين، السياحة، الاثار والمتاحف، وغيرها.

 

*أدهم الطويل .. إعلامي سوري
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحتنا على فيس بوك

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى