دراسات وأبحاث

فصل جديد في سردية تركية قديمة

د . عقيل سعيد محفوض

|| Midline-news || – الوسط  ..

نقرأ في رواية “الجنرال” للكاتب الإنكليزي آلان سيليتو، عن دخول فرقة موسيقية عسكرية موقعاً في إحدى جبهات الحرب للترفيه عن المقاتلين، لتفاجأ بوجود قوات معادية في الموقع. نأخذ من الرواية الجانب المشهدي من الحدث، ذلك أن دخول القوات التركية إلى جرابلس واحتلالها عدداً من المواقع الأُخرى يشبه دخولَ فرقة سيليتو الموسيقية، إلا أنها لم تجد قوات معادية هناك، بل على العكس.

قالت إلهام أحمد الرئيس المشترك لـ “مجلس سورية الديمقراطية”: إنَّ مقاتلي “داعش” في جرابلس قاموا بتغيير لباسهم وألوانهم ويافطاتهم إلى “الجيش الحر”. وهكذا فقد دخلت القوات التركية بشكل استعراضي، وسيطرت على المدينة من دون قتال.

استغلت تركيا موجة تقديرات واسعة، بأنها مقبلة على تغيير كبير في موقفها إزاء سورية، وزاد في الأمر أن موسكو وطهران لم تعلنا مواقف مناهضةً للتدخل التركي. هذا أوحى بأن العملية متفق عليها. ولم تبرز تحفظات من قبل الطرفين المذكورين، إلا بعد أن خرجت أنقرة على “النص”!

وهكذا تمكنت تركيا من تحقيق عدة أهداف بضربة واحدة:

1-      دخلت عسكرياً واستولت على أراضٍ سورية وأقامت قواعد عسكرية فيها؛

2-      تمكنت من انتزاع حق الدخول إلى سورية ضد الكرد؛

3-      أظهرت قوامتها التامة والكاملة على الجماعات المسلحة التي قامت بعمليات عسكرية لصالح تركيا؛

4-      وسعت نطاق عملياتها خلافاً لما تم إعلانه في بداية العملية؛

5-      عرضت على واشنطن المشاركة في أي خطط محتملة لـ “تحرير الرقة”؛

6-      وسعت العرض ليشمل “تحرير الموصل” أيضاً.

وأعادت تركيا إنتاج فكرة “المناطق العازلة”، وشرعَنَت تدخُّلها في سورية، وانتزعت قبولاً أو تفهماً واسِعَي النطاق لهواجسها الكردية، وأعادت إنتاج صورة جيش متماسك وقادر على أعمال من هذا النوع، ونظام راسخ وقوي أيضاً، وأعادت ترميم الصورة داخل تركيا نفسها، وصورة نظام أردوغان لدى المعارضة والجماعات الموالية لها، ووجهت رسائل قوية ليس ضد الفدرالية الكردية في سورية فحسب، وإنما ضد كردها هي أيضاً. والواقع أنها أعادت إنتاج أردوغان نفسه، بعد الخضة الكبيرة إثر محاولة الإنقلاب في تموز/يوليو الماضي.

برزت في المقابل مدارك تهديد متزايدة من أن أنقرة دخلت في أتون صراع محتدم، وليس من السهل الخروج منه بمكاسب منفردة أو عاجلة، كما أن التحفظات الروسية والإيرانية والتهديدات السورية، التي جاءت متأخرة نسبياً، زادت في مخاوف أنقرة، خاصةً أن القوات الكردية عادت لتعلن تمسكها بسورية موحدة، ومناهضة للأطماع التركية في الجغرافية السورية.

لكن تكمن المفارقة في أن طائرات التحالف والطائرات والقواعد الأمريكية، التي حمت الهجوم التركي على جرابلس، هي نفسها التي حَمَت عمليات “قوات سورية الديمقراطية” لإخراج داعش من منبج، فالولايات المتحدة وتحالفها يحميان قوتين متنازعتين في المنطقة، القوات الكردية من جهة، والقوات التركية من جهة أخرى، كما لو أن التحالف الأمريكي-التركي ضد التحالف الأمريكي-الكردي!

يبدو أن تركيا تمكنت من استثمار الصدوع بين دمشق وكردها، خاصةً إثر مواجهات الحسكة في آب/ أغسطس الماضي. وهكذا فقد عدّ كثيرون أن الهجوم التركي جاء في محَلِّهِ، وإن كان الفاعلُ عدواً، ولكن لا بأس من احتواء الاندفاعة الكردية التي تجاوزت –من منظوري دمشق وأنقرة-كل الحدود والسقوف. ولا بأس من توجيه رسالة إلى أنقرة بأن ثمة مصدر تهديد مشترك، وتوجيه صفعة لأصحاب الرؤوس الحامية في القوات الكردية، وتنبيههم إلى أن دمشق أكثر رحمة بهم، وأن العلاقة معها أفضل، بما لا يُقاس.

لكن أنقرة لم تلاق دمشق، وقد قال أردوغان أمام اجتماع للمحافظين، إنه لن يأخذ إذناً من دمشق، مضيفاً أنه “لا يمكن أن يحدث أي شيء في سورية من دون موافقة تركيا”. فيما قال نائب رئيس الوزراء التركي نعمان قورتولموش: إنَّ “كل الأطراف المعنية، بمن في ذلك حكومة دمشق، كانت تعلم بعملية (درع الفرات)”.

التدخّل التركي في الشمال هو حدث مشهدي بامتياز، بدا الموقف معه، كما لو أن تركيا تتدخل لأول مرة في سورية، إذ “نَسَخَ” التدخلات المستمرة منذ بداية الأزمة، ذلك ما يجري اليوم، يتم بموافقة وتفهم إقليميين ودوليين واسِعَي النطاق.

إنَّ من بين الأهداف العميقة للعملية هو أن تكون تركيا على مقربة من حلب، ويمكن أن تقوم هي نفسها بفتح ممرات إمداد إلى مناطق سيطرة الجماعات المسلحة داخل المدينة، فضلاً عن تأمين “جغرافيا مؤسسة” لمناطق عازلة في الشمال وعلى مقربة من الحدود.

كتب  ريتشارد هاس، رئيس “مجلس العلاقات الخارجية” الأمريكية  في صحيفة “فاينانشال تايمز” أن الاتفاقات بين روسيا وأمريكا لا تتضمن نقاط توافق نهائية حول إطار  زمني للعملية السياسية في سورية، ويصعب التوافق على موقع الرئيس الأسد في مستقبل البلد، ولا بد من “تغيير الظروف على الأرض” من خلال إقامة “مناطق آمنة” بدعم جوي وبري من قوات صديقة. وهذا هو  عينه ما تحاوله الخطة التركية لما بعد جرابلس.

لا توجد خارطة طريق معلنة للتدخل التركي، ولا حدود زمنية له، وقد عُدِّلت مراراً أهدافه وأولوياته، ولو أن أطماع تركيا في سورية والعراق، لا تخفى على أحد.

على هذا لسنا أمام سردية تركية جديدة، وإنما فصل جديد في سردية قديمة، أو استئناف لخطط كانت في حالة تجميد أو موت سريري، وقد ساعدت التطورات على إنعاشها، بل ودخول بعض مفرداتها حيز التنفيذ.

مركز دمشق للابحث والدراسات – مداد 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
أهم الأخبار ..
بعد 3 سنوات من اختطافه.. جائزة فولتير تذهب لكاتب عراقي موسكو: الرئيسان الروسي والصيني قررا تحديد الخطوط الاستراتيجية لتعزيز التعاون الجمهوري رون ديسانتيس يعلن ترشحه للرئاسة الأميركية للعام 2024 الأربعاء البيت الأبيض يستبعد اللجوء إلى الدستور لتجاوز أزمة سقف الدين قصف متفرق مع تراجع حدة المعارك في السودان بعد سريان الهدنة محكمة تونسية تسقط دعوى ضدّ طالبين انتقدا الشرطة في أغنية ساخرة موسكو تعترض طائرتين حربيتين أميركيتين فوق البلطيق قرار فرنسي مطلع تموز بشأن قانونية حجز أملاك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بطولة إسبانيا.. ريال سوسييداد يقترب من العودة إلى دوري الأبطال بعد 10 سنوات نحو مئة نائب أوروبي ومشرع أميركي يدعون لسحب تعيين رئيس كوب28 بولندا تشرع في تدريب الطيارين الأوكرانيين على مقاتلات إف-16 ألمانيا تصدر مذكرة توقيف بحق حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة الانتخابات الرئاسية التركية.. سنان أوغان يعلن تأييد أردوغان في الدورة الثانية أوكرانيا: زيلينسكي يؤكد خسارة باخموت ويقول "لم يتبق شيء" الرئيس الأميركي جو بايدن يعلن من اليابان عن حزمة أسلحة أميركية جديدة وذخائر إلى كييف طرفا الصراع في السودان يتفقان على هدنة لأسبوع قابلة للتمديد قائد فاغنر يعلن السيطرة على باخموت وأوكرانيا تؤكد استمرار المعارك اختتام أعمال القمة العربية باعتماد بيان جدة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الجامعة العربية لتمارس دورها التاريخي في مختلف القضايا العربية رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي معتبرين ذلك خطوة هامة نحو تعزيز التعاون العربي المشترك، ونثمن الجهود العربية التي بذلت بهذا الخصوص الرئيس الأسد: أشكر خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد على الدور الكبير الذي قامت به السعودية وجهودها المكثفة التي بذلتها لتعزيز المصالحة في منطقتنا ولنجاح هذه القمة الرئيس الأسد: أتوجه بالشكر العميق لرؤساء الوفود الذين رحبوا بوجودنا في القمة وعودة سورية إلى الجامعة العربية الرئيس الأسد: العناوين كثيرة لا تتسع لها كلمات ولا تكفيها قمم، لا تبدأ عند جرائم الكيان الصهيوني المنبوذ عربياً ضد الشعب الفلسطيني المقاوم ولا تنتهي عند الخطر العثماني ولا تنفصل عن تحدي التنمية كأولوية قصوى لمجتمعاتنا النامية، هنا يأتي دور الجامعة العربية لمناقشة القضايا المختلفة ومعالجتها شرط تطوير منظومة عملها الرئيس الأسد: علينا أن نبحث عن العناوين الكبرى التي تهدد مستقبلنا وتنتج أزماتنا كي لا نغرق ونغرق الأجيال القادمة بمعالجة النتائج لا الأسباب الرئيس الأسد: من أين يبدأ المرء حديثه والأخطار لم تعد محدقة بل محققة، يبدأ من الأمل الدافع للإنجاز والعمل السيد الرئيس بشار الأسد يلقي كلمة سورية في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة الرئيس سعيد: نحمد الله على عودة الجمهورية العربية السورية إلى جامعة الدول العربية بعد أن تم إحباط المؤامرات التي تهدف إلى تقسيمها وتفتيتها الرئيس التونسي قيس سعيد: أشقاؤنا في فلسطين يقدمون كل يوم جحافل الشهداء والجرحى للتحرر من نير الاحتلال الصهيوني البغيض، فضلاً عن آلاف اللاجئين الذين لا يزالون يعيشون في المخيمات، وآن للإنسانية جمعاء أن تضع حداً لهذه المظلمة الرئيس الغزواني: أشيد بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي آملاً لها أن تستعيد دورها المحوري والتاريخي في تعزيز العمل العربي المشترك، كما أرحب بأخي صاحب الفخامة الرئيس بشار الأسد الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني: ما يشهده العالم من أزمات ومتغيرات يؤكد الحاجة الماسة إلى رص الصفوف وتجاوز الخلافات وتقوية العمل العربي المشترك