عن “كسر عضم ” والسوري القبيح: من شيطنة “النظام” إلى شيطنة المجتمع .. د.إنصاف حمد .

في كتابه “المصطنع والاصطناع” قدم الفيلسوف الفرنسي جان بودريار نظريته عن موت الواقع والتي شرح فيها كيف جعلت الميديا المصطنع هو الحقيقة التي تحجب الواقع، حيث بتتا نعيش في عالم المصطنع simulcra، أو ما فوق الواقع hyper real، عالم كيّفه الإعلام حيث لا مرجعية واقعية بل صورة/ رمز ابتلع الواقع وصار هو الواقع، وغدت وظيفة الميديا هي إلغاء المعنى الحقيقي، بعد أن تحولت إلى ثقب أسود للتعمية والتلاعب بالعقول، بتعبير شيللر، وقولبة مداركها وسلوكياتها ومنظوماتها القيمية وذلك كله وفقا لإرادة وأيديولوجية من يملك وسائل الإعلام ويتحكم بها.
لقد غدا هذا العالم وفقا لبودريار خاضعاً لمدار مصطنع حلت فيه النسخة، وهي هنا الصورة أو النص أو العمل الدرامي أو الفني، مكان الأصل، وبينما من المفترض أن النسخة تحافظ على علاقة مرجعية مع الأصل، نجد أنّ المصطنع لا يفعل غير اصطناع مصطنعات أخرى بحيث يختفي كل مفهوم للأصل كحدث أو أحداث أصلية، كحقيقة أولى، وبحيث لا يبقى مجال في المدارك سوى للمصطنعات، وهكذا يحل المصطنع محل الواقع بتدميره لثنائية الدال والمدلول، وافتراسه المرجعية التي كان الواقع يشكلها .
وهذه الحال من الاصطناع “ما فوق الواقعية” الناجمة عن تورط الميديا في حجب الواقع، تستمد قوتها وسلطتها من تخريب النظرة السوية والموضوعية للواقع، ففي عالم المصطنع يغدو من الممكن أن يقتنع الناس بالشيء ونقيضه وتسود العدمية وفراغ الروح، وتغدو الكآبة السمة الملازمة لزوال المعنى، حيث يسود الخوف واللامبالاة واضمحلال الموازنة بين الخير والشر، وذلك عبر التلاعب بوعي المتلقي وإقناعه عبر قوة الميديا بالرؤية التي تريدها.
من هذا الميكانيزم تنبع خطورة مسلسل “كسر عضم”، من اصطناعه واقعاً يشيطن فيه معظم السوريين إن لم يكن كلهم، متقدماً خطوة أبعد مما درجت عليه سردية ما يسمى بالمعارضة للحدث السوري، المبثوثة عبر وسائل الإعلام الداعمة لها منذ بداية الحرب على سوريا، بل من ما قبلها، فمع هذه النقلة يجري العمل بتؤدة على شيطنة المجتمع السوري والدولة معاً بعد أن كان الأمر مقتصراً نسبياً على شيطنة “النظام”، إنه عمل يصطنع واقعاً كل السوريين فيه أشرار، دولة ومؤسسات وأفراد، يعم فيه الإجرام والفساد والبشاعة والانحلال ليشمل الجميع بمختلف طبقاتهم وانتماءاتهم وولاءاتهم، من المسؤولين ورجال السلطة إلى ضباط الجيش ورجال الأعمال والمحامين ورجال القانون وأساتذة الجامعات والطلاب والفنانين وصولاً إلى أهالي التجمعات والحارات والأحياء.
على هذا النحو يقدم المسلسل واقعاً قبيحاً ومخيفاً إلى درجة الرعب والغثيان، لا تكاد تتلمس فيه صورة واحدة نقية أو إيجابية، (حتى الشخصيات التي من المفترض أن تحمل هذه السمة جرى تلويثها، فالضابط ريان رغم محاولته التمرد على هذا الواقع لم يعترف على تجاوزات والده وكان متعاطياً للمخدرات فضلا عن موقفه الانهزامي بالانتحار والذي أراد العمل من خلاله ان يقول أن لا أفق لأي محاولة للرفض أو التغيير، أما والدته فقد ظهر رفضها سلبياً عبر استسلامها بل وتواطئها بالقبول بالعيش الرغيد مع مجرم مثل الحكم رغم معرفتها بكل آثامه، حتى شمس أظهرها العمل ذات ماض وهي لاتتورع عن اللجوء إلى وسائل غير قانونية لإحقاق حق إيليا وذلك بالتواطؤ مع من هم حراس القانون كالضابط مروان، ومثلها عبله التي تستخدم نفوذها وعلاقاتها لتصل إلى ما تريده حتى ولو كان خيراً).
وهكذا يتم تصوير الدولة السورية، بجميع مؤسساتها والقيمين عليها، منخورة حتى العظم بالفساد والإجرام، رجال الأعمال فيها مجتمع مافيوي قذر بكل معنى الكلمة، أساتذة الجامعات فاسدون ومرتشون ومنحلون أخلاقياً، الطلاب والطالبات قوادون وعاهرات وشهاداتهم حصلوا عليها بالرشوة وبالطرق اللاأخلاقية، المدن الجامعية أوكار دعارة ومشرفوها قوادون، المحامون ورجال القانون محتالون وأفاقون والأطباء اناس بلا رحمة وشركاء في جرائم الاتجار بالأعضاء، وكل من يلجأ للقضاء إنما هو متواطىء ومتورط في كل ذلك، وشباب ضائع كافر بوطنه مدمن ومستعد لارتكاب الموبقات كلها في سبيل العيش وتحقيق ما يريد أو في سبيل الهجرة، حتى أهالي الحارات والأحياء متورطون في ظلم وإيذاء بعضهم البعض، و.. و… .. حتى أننا لانكاد نلمح في هذا المستنقع شعاع ضوء واحد، خلا شخصيات ثانوية هزيلة غير فاعلة وغير مؤثرة في الجهنم السورية التي تصنّعها وتسوقها مثل هذه الأعمال (ولكي لا يتم لحظ حضورهم في المشهد اختير ممثلون ثانويون للقيام بأدوراهم).
ثمة من سيقول أن ما يعرضه المسلسل واقعي، وقد قالها كثيرون، وهذا صحيح جداً ولا يمكن إنكاره، وكان موجوداً في سوريا قبل الحرب، كما في أي بلد وبنسب مختلفة، ومن الطبيعي والمتوقع أن يزداد حضوراً وانتشاراً لابل فجوراً أثناء الحرب والأزمات نتيجة الإجهاد الذي أصاب الدولة والمجتمع معاً جراءها.
إلا أن الخدعة الماكرة في الاصطناع تكمن هنا في اختزال المجتمع كله والدولة إلى بؤرة فساد وانحلال وإجرام تتألف من هؤلاء المارقين، وهذا ليس إلا اصطناع مصطنعٍ أريد له أن يحل محل الواقع الحقيقي الذي يوجد فيه إلى جانب كل ما سبق من قباحة، جانب مغيب ومحجوب، جرى افتراسه والتهامه، واقع يمثله أولاً جيش اسطوري وجنود وضباط أبطال وقديسون سطروا ملاحم في الشرف والكرامة للدفاع عن بلدهم، ورجال دولة ومسؤولون شرفاء بذلوا اقصى ما يستطيعون للحفاظ عليها وعلى مؤسساتها، ورجال أعمال وطنيون وقفوا إلى جانب أهلهم وناسهم، وطلاب وطالبات تمسكوا بالعلم طريقاً لا محيد عنه، وأساتذة شرفاء عانوا الأمرّين ولازالوا كي لاتتوقف العملية التعليمية ولايخذلوا طلابهم، وأطباء ورجال قانون حافظوا على شرف قسمهم ومهنتهم، ومواطنون قابضون على جمر البؤس والفقر لم يكفروا بوطنهم ولم يتخلوا عن قيمهم وكانوا لبعضهم ملاذاً وحضناً في الملمات …و….و… الأمثلة لاتعد ولاتحصى، وهو ماسكت عنه المسلسل كلياً تقريباً وعمل على إخفائه، والمعادلة ليست متساوية الطرفين هنا، والأكيد أن كتلة الجميل والإيجابي في سوريا أكبر بما لا يقاس من حجم القبيح والعفن، ومكمن الخطورة أن كل هذا الجمال تم تغييبه في اصطناع واقع بديل قبيح يراد منه أن يكره السوريون أنفسهم أولاً وبلدهم ثانياً وأن يصلوا إلى قناعة مفادها أن لا عزاء لهم، وأن الأفق مسدود، وأن لا حياة ممكنة بعد الآن في هذا البلد.
وعلى مقلب آخر، يستبطن فكرة لاتقل خطورة، إذ طالما انهم بهذه البشاعة، كما تم اصناع صورتهم وواقعهم، دولة ومجتمعاً، فمن الطبيعي أن يحدث ما حدث لهم، وهذا يعني في التخليل الأخير صك براءة لكل الايادي الخارجية التي عبثت بسوريا.
والأدهى في كل ما تقدم أن هذه الرسالة المضمرة في “كسر عضم” قدمت في قالب به، توفرت له كل عناصر النجاح من نص مشوق وجريء و”يفش خلق” الناس المتعبة والمقهورة، إلى مخرجة متمرسة في هذا النمط من الأعمال يكاد المرء ان يتوجس من أنه نهج “مريب” لها، وقبل كل ذلك وبعده ممثلون سوريون مبدعون تفوقوا على أنفسهم.
إنه عمل يمكن أن ينطبق عليه مصطلح “جمالية القبح”، بتعبير روزنكرانتس وإلى حد ما إمبرتو إيكو ، إنه ذلك التصوير الجميل والمبدع لمضمون قبيح، والأكثر من ذلك، وكأن العمل لم تكفه عناصر النجاح تلك بل ساهم ما أثير حوله في وسائل التواصل، سواء من تنازع يكاد يكون مفتعلاً حول ملكية النص و أيضاً حول بعض مقولات العمل مثل تبرير التحرش بارتداء ملابس غير محتشمة في تأمين أكبر نسبة متابعة له.
أخيراً، الغريب كيف مرَّ نص بهذا القدر من الاصطناع على لجان الرقابة المعروف عنها تدقيقها في أبسط التفاصيل، وكيف فاتها كل ذلك التشويه والاختزا، وذلك التهشيم المتعمد لعبارة رمز بدلالاتها “أنا سوري آه يا نيالي”، وإذا ماكنا جميعاً نطالب بهامش واسع لحرية التعبير والجرأة في النقد وتعرية الفساد وتسليط الضوء على كل الممارسات الخاطئة، إلا أن ذلك لا يجوز أن يصل إلى حدود التزييف والتشويه والتيئيس.
والأغرب كيف لم تستطع مؤسسات الإنتاج الوطنية تكريس كل إمكانياتها، وهي ليست قليلة، لتقديم عمل تتوفر له كل عناصر النجاح عن سوريا الحقيقية لا المصطنعة، سوريا بعجرها وبجرها، بجمالها وقبحها، بقممها وقاعها، بأبطالها وخائنيها، بشرفائها وفاسديها، بكل ما لها وما عليها.
فلننظر حولنا قليلاً ولنرى ما فعل ويفعل المصريون منذ حرب تشربن وحتى الآن.
*باحثة وأكاديمية سورية – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب