عذراً مطار دمشق .. د.محمد عامر المارديني

|| Midline-news || – الوسط …
مُنهياً مَهمّةً رسميّة في موسكو ، حزمتُ أمتعتي استعداداً للعودة إلى أرض الوطن الحبيب سوريا على متن إحدى طائرات الخطوط الجويّة السورية المشهودِ لها بكفاءتها وخبرة طواقمها وسلامة رحلاتها وهي التي اتخذت من عبارة : “السورية تعني الأمان “شعاراً لها منذ عقود ، فأثبتَ هذا العهدُ مصداقيّته، رغمَ تردّي حال -ويا للأسف- الخدماتِ المرافقة للراكب أيّاً كانت وجهته.
في المطار، وبحفاوة بالغة استقبلني مندوبُ الشركة الذي سبقَ ليَ التعرّفُ إليه ولقاؤه غيرَ مرةٍ خلال أسفاري إلى روسيا.
في هذه الرحلة كان بحوزتي حقيبتان إحداهما كبيرة ، أما الأخرى فهي من الحجم الذي يضعه الراكب على الرفّ المخصص لأمتعته الشخصية فوق مقعده في الطائرة،ولكن ممثل الشركة اقترح عليّ بلباقة لطيفة أن أخفّف أحمالي وأرسل الحقيبتين مع أمتعة الركاب تخفيفاً عليّ من تكبّد حمل الحقيبة والتجوال بها أثناء سفري طويل الساعات.لا أدري لماذا وافقتُ على عجل دون تفكير ، وغاب عن ذهني أن أخرجَ رواية منها كنت أنوي إنهاء قراءتها، لقتلِ ملل ساعات السفر والدقائق والثواني البطيئة في رحلة طويلة كهذه.وبعد أن غابتِ الحقيبتان عن ناظري ، وحُمِّلَتا مع أمتعة الركّاب ؛ لا ندمٌ بات ينفع ، ولا أملٌ تبقّى لديّ في استرجاع حقيبتي الصغيرة فقد قُضيَ الأمر وانتهى.
بَيدَ أنّ نسيانَ الرواية لم يكُ شيئاً مهمّاً أمام نسيان محفظتي الجلدية الموضوعة في أحد جيوب حقيبتي الصغيرة والتي تضمّ في طيّاتها كلّ بطاقاتي الالكترونية وهويتي الشخصية،إضافةً إلى قرابة الخمسمئة دولار أمريكي، وعشرين ألف ليرة سوريّة.ومن المؤكد أن من سيجد حقيبتي لن يصعب عليه تمييزُ ذلك الانتفاخِ في جيوبها ، ومن ثمَّ استلالُ محفظتي بخفة وسهولة دون أيّ جهدٍ يُذكَر،فلا عينٌ تبصرُ، ولا أحدٌ يشعر !
يا الله ماذا فعلت؟ وما عساه سيجري في حال فقدان بطاقة الهوية الذي سيؤرقني ويقضّ مضجعي، ويقلق راحتي؟
بقيت مهموماً طيلة ساعات السفر، وتملّكني شعورٌ أنّ المسافة بين موسكو ودمشق تعادل دهراً من التوترِ والتوجّس والتفكير، وندبتُ حظي العاثر ولعنتُ تكاسلي في حمل الحقيبة من أجل إحساسٍ زائفٍ بالراحة أثناء السفر.
وأخيراً هبطتِ الطائرةُ في مدرج مطار دمشقَ، وأنهيتُ إجراءاتِ المغادرةِ بسرعة قياسية ، إلى أن وصلتُ إلى قاعة تسليم الأمتعة منتظراً وصولَ حقيبتي.
ومرّتِ الدقائقُ متثاقلةً إلى أن لمحتُ حقيبتي الكبيرة، أسرعت وسحبتها من على المسار الجلديّ منتظراً بلهفة وصول حقيبتي الصغيرة.
لكن عبثاً فقد خرجت كل الحقائب إلا خاصتي ، وغادر المطار كلُّ الركّاب المرافقين على متن طائرتي.
ذهبتُ أسأل وأتحرى في مكتب المفقودات عن حقيبتي، والقلق يعصفُ بي، فوجدتُ الموظف المسؤول يغطّ في نوم عميق، وبعد محاولاتٍ بالتحدّث تارةً وبالربتِ على كتفه برفقٍ تارة أخرى، أفاقَ صاحبُنا من نومه الهنيءِ وتمطمطَ متثائباً يعاندُ رغبته في إكمال النوم واستجمع وعيه وسألني عمّا أبغي منه، فسردتُ له حكايتي فأكدَ ليِ جازماً أن لاشيءَ يضيع في الطيران السورية، وثمّةَ احتمالان الآن لا ثالث لهما؛ فإما أن تكون حقيبتي قد حُمّلت في طائرة أخرى في موسكو، أو ظلت هناك على الأرض، ثمّ أردف قائلاً بحماسةٍ: قم معي نتفقّدِ الشاحنةَ التي جلبت الحقائب من الطائرة، لعلّ حقيبتكَ مازالت في الشاحنة متروكةً.
في هذه اللحظة فقط أحسستُ باليأس، وفقدان الرجاء وأنه لا طائل من أي إجراءٍ أتخذه طالما أن المصيبةَ وقعت ، والمحفظةَ سُرقت حتماُ.
انطلقنا لتفتيش الشاحنة بعد سيل من الأوراق المطلوبة والاستمارات والمعلومات والبيانات في المكتب الرسميّ المفوّض بمثل تلك الحالات.
وقبيلَ وصولنا إلى باحة المطار الخارجية ، لمحتُ حقيبتي، نعم ، إنها هي بعينها ، فرحتُ رغم بعض القلق الذي لم أستطع أن أتغلّب عليه .
شكرتُ الموظف الذي مدّ ليَ يد العون، واعتذرتُ له مجدّداً لإيقاظه وقطع سلسلة أحلامه، وهتفتُ: لقد حُلّتِ المشكلة فقد وجدتُها …وجدتها…وجدتها.
أسرعتُ وفتحتُ سحّاب الجيب الهدف، ولدهشتي وجدتُ المحفظة في مكانها.
نعم..كلّ شيء في مكانه، الهوية، البطاقات، لا بل حتى الدولارات الأمريكية، فقط العملة السورية غير موجودة !
حسناً ، لا يهمّ؛ قلتُ في سرّي: المهم هو الهوية والبطاقات الشخصية ولا أسف على النقود، الحمد لله الذي أزاح الهمّ وفرّجَ الهمّ.
حينها خطرت في بالي فكرة ، فذهبتُ إلى غرفة ضابط أمن المطار، تردّدتُ هنيهةً ثمّ دخلتُ لأرى مجموعة من رجال الشرطة يحتسون الشاي الثقيل ويدخنون السجائر، صافحتهم فرداً فرداً إلى أن وصلتُ حيث يجلس كبيرهم الضابط، وحكيت له بالتفصيل ما حدث معي، لافتاً نظره إلى وجوب عدم تكرار مثل هذه الأمور لئلا نسيءَ إلى سمعة بلدنا الغالي ومطارنا وأمانتنا كسوريين أمام أي وافدٍ أو سائحٍ غريب.
ابتسم الضابط غيرَ آبه بسماع التفاصيل وقال: أجزم لك أن السرقة قد تمّت في مطار موسكو، فقاطعته فوراً: وكيف تجري هناك والعملة السورية لا قيمة لها هناك، ولن تنفعَ سارقها ؟؟!! كان الأجدى به على الأقل أن يسرق الدولارات أيضاً، أليس كذلك؟؟
ألا توجد لديكم كاميرات مراقبة ؟؟
قهقه رجال الشرطة بصوت أجش متبوعاً بسعال ديكي لإدمانهم تدخينَ التبغ ، وقال أحدهم بثقة لا متناهية: يا حبيبي نحن نشمّ رائحة السارق، نحن تلاميذ بدري أبو كلبشة ، وأنوفنا لا تخطئ! وحتى لو افترضنا وقوع السرقة هنا فلا كاميرات لدينا ولا من يحزنون !
قلت له : لقد أديتُ واجبي بإبلاغكم بما حصل لتوخّي الحيطة والحذر والحرص على سلامة أمتعة الركاب .وسامح الله مَن أخذ مالي .
ضحك الجميع قائلين : الله يعوّض عليك أستاذ .
عدتُ إلى المنزل بعد شروق الشمس لأجد زوجتي في استقبالي مبديةً الاستغراب لتأخري أكثرَ من ساعتين في العودة.فقصصت عليها ما حصل ، ففاجأتني بسؤالٍ ساحقٍ ماحق بعيداً من كلّ تفصيلات الواقعة :لمَ أخذتَ معك ذاك المبلغَ الكبير من الليرات السورية إلى موسكو ؟؟!!
كانت محقّةً لدرجة أني لم أدرِ ما أجيبُها.
بعد أسبوعين دعيتُ إلى حفل عشاءٍ أقامه أحد الأصدقاء فرحاً بتخرّج نجله مهندساً معمارياً.
سارتِ الحفلة بشكلٍ ممتع إلى أن بدأ المدعوون يقدّمون الهدايا و” النقوط” للمهندس الشاب ، خجلتُ كثيراً لنسياني هذا الواجب وقمت إلى الحمامات ريثما تنتهي مراسم تقديم الهدايا ، فلربّما حينها آخذ المهندس جانباً وأعده بهديته التي ستصله غداً دون أدنى تأخّر .
وفي الحمام وأثناء بحثي عن نقود أقدمها لعامل النظافة صبوح الوجه، تلمستُ جيوبي فإذ بي أجد رزمةً سميكة من فئة الألف ليرة، عددتها فإذا هي عشرون ألفاً بالتمام والكمال.
ذهبتُ مسرعاً إلى الشاب المحتفى بتخرجه قائلاً له: هاك مبلغ نقديّ تشتري به ما يلزمك هديةً رمزيةً على نجاحكَ.. فاحمرّت وجنتا الشاب وقبلها شاكراً ممتنّاً لذوقي ولباقتي.
في البيت رويتُ لزوجتي ما جرى، حامداً اللهَ على إنقاذي من موقف محرج ووقوفه سبحانه جانبي في كلّ الظروف.وشكرت زوجتي على حسن تفقّدها لجيوبي وحنكتها ورعايتها لي كالملاك الحارس الأمين.
التفتت زوجتي قائلة بسرعة : أعد ما قلتَ ..من وضع تلك النقود في جيبك ؟ هل هي أنا فعلاً أم امرأة سواي ؟؟؟
أجبتها وقد غُصّتِ الكلمات في حنجرتي : ويحكِ أجننتِ؟ أم أن خيالكِ قد سرح بعيداً جداً؟
أجابت بحزن: كفاك تمثيلاً قل بسرعة أين كنت وكيف وصلت النقود إلى جيبك وهاتِ تفسيراً منطقياً لكلّ الرواية.
وبينما أنا غارق في التفكير ، لفتني تقرير يعرض على التلفاز عن مطار دمشقَ فتذكرت فجأة ما حصل منذ خمسةَ عشر يوماً، فانفرجت أسارير وجهي شيئاً فشيئاً وعلتِ البسمة شفاهي. ودنوتُ من زوجتي وعانقتها مهدّئاً من روعها وإحساسها بخيانة افتراضية مزعومة!
قلت لها : الآن حصحص الحق يا حبيبتي ، أليست بزتي التي أرتديها الآن هي نفسها التي كانت معي في موسكو ؟أجابت بارتباك: لا أدري، ربما، نسيت، لا أعرف .
قلت : بلى إنك تدركين جيداً أنها هي ذاتها والعشرون ألف ليرة التي ظننتها في المحفظة وسُلبت مني كانت موضوعة في إحدى جيوب البدلة.
استعادت زوجتي رونق ملامحها ، وبهاء وجهها الورديّ الساحر وتذكرت معي وقالت مبديةً بتكلّفٍ عدم الاكتراث: سامحك الله يا عامر، أيها النسّاءُ اتهمتَ عمال المطار بإساءة الأمانة ..عليكَ الاعتذار .
طأطأتُ رأسي خجلاً مما فعلتُ يومها في المطار وها أنا ذا أقدمُ أسفي واعتذاري على ما بدر مني من اتهامات؛ وأقول:
مطارنا الحبيب… عذراً.
.