طمئنونا عنا !؟ .. د. نهلة عيسى

تسألني مذيعة في برنامج حواري: ماذا عن عودة سورية إلى جامعة الدول العربية؟ وكأنها ترجوني أن أشكو, أن أصرخ, أن أبكي, فقلت لها بهدوء: أزعم أن ضمير المتكلم فيما أقول, هو ضمير جمع كل السوريين, وعليك أرد: رغم الألم فالعودة بالتوافق العربي خير لكل العرب, لأنه من المستحيل استمرار العيش في اجترار ما قد مضى, والقال والقيل, خاصة وأن عدونا جميعاً يسعى لتأميم الوجع, الذي غادر المساكن الشعبية, والشوارع الخلفية, وقلوب الأمهات, والحدود والسدود, ليطال كل العرب.
كيف صبرنا حتى اليوم؟ تسألين: كانت تقص رؤوسنا كل يوم, لسبب مبني للمجهول, وعندما كنا نطالب أن يُبنى موتنا للمعلوم, كان العالم “الحر” يشجب صفاقتنا, ولا إنسانيتنا, لأن مطالبتنا بالموت في العلن, تفخخ عقود ياسمين السلام, فنستحي لأننا حقاً همج! فالواجب علينا أن نخرج من موتنا, ونرمم رؤوسنا المقطوعة, ونقف في الساحات والميادين نرحب بصناع السلام الميامين, ونرجوهم أن يأخذوا وقتهم في صنع السلام, إذ لن يضير الشاة بعد الذبح الانتظار!!.
تسألين كيف عشنا؟ هذا سؤال لا يحتاج للنبش في الحقائب العتيقة, لمعرفة ما فيها: شهادة ميلاد, أم صك وفاة, أم تميمة تطرد أشباح الماضي, من بيتك الجديد!؟ ولن أجيب على سؤالك بسؤال, بل باعتراف بسر صغير: يوم التحف العالم الصمت على موتنا كفناً, أقمنا نحن على روحه الصلوات, وتقبلنا التعازي, بيقين العارف: أن لا (كان واخواتها), ولا (أن واخواتها), ولا الأفعال التامة, أو الناقصة, أو المتعدية, ولا حتى (لا) النافية للجنس قادرة على أن تعيده من منافيه, ولذلك, ببساطة حملنا البندقية ودافعنا عن حياتنا وحياة الجميع!؟.
تسأليني, وفي السؤال شراك: كيف عشت؟ تريدين جواباً؟ إليك الجواب: رأسي ليست مخبئة في الخزائن الحديدية, إنها مذياع أحمله في رحلتي النهارية, وكل شيء حولي بحالة رحيل من المحطات الحزينة: الصداقة, الفرح, الحب, الأشياء المُتوهمة, والأشياء المُبالغ فيها, وأنا مع كل رحيل, أولد من جديد, وأنتمي إلى يقين, أنتمي إلى وتد: أن يوماً في الوطن يعادل عمرين, وأنني فيه على الأقل, أتقاسم الخبز, الحزن, الموت مع من أحب, تراك اصطحبت في صمتك من تحبين؟ تسأليني عن عيشي .. موتي: الحرب في كل أوراقي الشخصية, في ما أكتب, وما أقول, هي حافز كل ما أقوم به من فعل.
تسألين كيف عشت؟ سامحيني إذا انتابني سعال الضحك, لأن سؤالك جاء بين شوطين!؟ فالحرب ربما تغلق أبوابها في بلادي, ولكنها في مستطيل النور عندما يشع في انفراج باب, أي من أبواب العرب, وفي وهج اللفافة الأخيرة قبل النوم, وفي تواقيع الرسامين في لوحاتنا المعلقة, في أغلفة الكتب, وذوبان الثلج في الأكواب, ورنة الملاعق الصغيرة في كأس الشاي, وفي صمت المذياع برهة قصيرة, يتوقف القلب فيها .. ترى من مات؟ وفي غبش زجاج السيارات بعد أن ينقشع الضباب, وبخصلة شعر كنت قد قصصتها, وأهديتها يوماً لجندي صغير, قال لي: أمي شعرك جميل, وردوها لي منذ حين, وقالوا لي ببساطة الصفاقة: أنه مات, ويا صديقة: كل جندي في بلادي مات, مد يوماً في عمرنا وأعمار كل العرب, تسألين عن عيشنا: موتنا كان بخير, وننتظر اليوم أن يطمئننا الأشقاء العرب, أن عيشنا سيكون بخير!!.
إقرأ أيضاً .. وناسة البنزين!؟ ..
إقرأ أيضاً .. الحي القتيل!؟ ..
*أستاذة جامعية – سوريا