شر الهزائم .. غسان أديب المعلم

من الطبيعي أن تكتسب السلطات ثقة الشعب عند قدرتها على تحقيق أهدافها المصرّح عنها بإيجابيّة كما هو شأنها الطبيعيّ، سواءً عبر بيانات حكومتها المنبثقة عنها أو المظلّة العامّة للدولة برمّتها عبر السلطات مجتمعة من تنفيذيّة وتشريعيّة وحاكمة وموجّهة..
وعند هذه النقطة – أي الثقة – فإنها تسهم في تجاوز معظم العقبات والعثرات التي يمرّ بها الاقتصاد بالعموم، إلى ما هنالك من تأثير على معظم النواحي المرافقة للحالة الاقتصادية والتنمية التي تعبّر بشكلٍ كبير عنها كالسياسية والاجتماعية وغيرها، فالثقة بين الطرفين لها الكثير من الإيجابيات سواء في هذا المتن الأساس وغيره..
بالمقابل، عند ضعف الثقة أو تلاشيها، ذلك يؤدي إلى إثارة الشكوك حول جدوى أهداف السياسات والاجراءات بالمجمل، سواء عن طريق الحكومة بشكل خاص والدولة برمّتها بشكلٍ عام، ممّا يحول دون تعاون المواطنين مبدئيّاً مع المؤسسات عند اختفاء دورهم الرقابيّ الشعبيّ لتصويب السياسات -حين وبعد- فشلها!!، فالشعب يبني الثقة من خلال الأفعال لا الأقوال، ولكي يحترم المواطن أي قانون يُفرض عليه، فلا بدّ أن يرى هذا القانون مُحترماً من قبل المسؤولين أيضاً، فما الحال لو كانت تبريرات المسؤولين تحمل مفردات الغبن والاستخفاف بالعقول على المستوى العام برمّته؟، وما الحال لو كان المطلوب من الشعب أن يصدّق هذه الترّهات رغماً عنه، بل وعليه أن يقتنع بأنّه البوصلة والهمّ والاهتمام والشغل الشاغل لكلّ مخطّطات الدولة.
لكن، ثمّة عوائق ومطبّات لا بد وأن تُزال يوماً ما، ولو كان ذلك بعد مليون سنة من الانتظار! على مبدأ: “عيش ياكديش”!، فالواقع الاقتصادي المُرعب الذي يعيشه المواطن السوريّ يشي بالحال المُزري الذي لا تقوى على تجميله فعاليات المساحيق المختلفة من مصالحات وتقاربات وعودة للحظائر أو اجتماعات و زيارات المسؤولين من الخارج على اختلاف مناصبهم، ولا حتى القرارات الأمميّة التي تربط الحلول بالمُستحيلات وفق أجندتها لما يحقّق مصالحها أوّلاً على حساب الشعب السوريّ المنكوب ..
على الجانب الأمميّ، أكثر المتفائلين يعلم في سرّه بأنّ هكذا أحوال هي الأفضل لتقاسم الكعكة بجغرافيّتها وماتحمله من ثروات، ولا بأس بأن يصبح حلّ القضية السوريّة طيّ النسيان أمام مصالح الجميع!، أمّا داخليّاً، فالسلطات بالعموم، تحاول رسم لوحة دأب المواطن على النظر إليها مع عدم قناعته بتفاصيلها وخطوطها، والأنكى بأن اللوحة تُنسخ وتُلصق أمام الناظر بذات الدقّة ودون أيّ تحريف أو اعوجاجٍ بخطّ!، فيذهب بعض المسؤولين البائعين لضمائرهم عبر لحن القول بترديد التبريرات وبثّ الحلول البالغة في السخافة والاستخفاف!!، كأن تخرج الأبواق لتردّد ذات نغمة النشاز بأن هناك “فارقاً” بين الحكومة والدولة، وأنّ ثمّة انفصال بينهما!، وأنّ الحكومة تسير بنهجٍ خاطئ، وأنّ على الدولة الانتباه لهذا الأمر وتصويب المسار!، أو أنّ الدولة مشغولة بما هو أكبر من ذلك الأمر، وأنها تسعى لتقسيم العالم إلى أقطابٍ متعدّدة، وأنها تسحق الأعداء وتمحيهم عن الخارطة دولة إثر دولة!!، بينما الحكومة تستغلّ انشغال الدولة بالعموم ويكون معظم أركانها كالعادة من بائعي الضمائر وسارقي الثروات ومن قطّاعي الطرق أو من الأغبياء على أقلّ تقدير!.
إنّ هذه اللوحة القبيحة المفروضة لا تسرّ الناظرين ولا تدخل عقولهم على محمل الجدّ، وماهي إلّا تواصل للنهج الخاطئ بتهميش الشعب ونهشه أكثر، وبالتالي اضمحلال بُنيان الدولة وتهدّم أساساتها المبنية على إرثٍ حضاريّ وموقعٍ جغرافي وشعب مؤمن بهذا البُنيان الذي يُسمّى بالأمّة السوريّة أو سوريا أو الوطن وغير ذلك.. فهذا الشعب يرزح تحت وطأة واقعٍ اقتصاديّ بالغ الأثر في الصعوبة، جعل من همّ المواطنين المُتخمين بالعزيمة كيفيّة إنهاء يومهم بأقلّ حصة من الهزيمة!.
فالرواتب والأجور فعليّاً هي تكلفة معيشة يومٍ واحد بأقل المتطلّبات، والركود الاقتصادي وانهيار العملة على قدمٍ وساق، والمفارقة المُضحكة بأنّ هذا الانهيار يتسابق مع سباق المسؤولين العرب أو غيرهم نحو سوريا “لنيل الرضا”، كما تصف ذلك المارثوان أبواق السلطة المأجورة، والأكثر ضحكاً بمرارة تسويق أمرنا بأننا على طريق النصر المُبين الذي يتراكم انتصاراً إثر انتصار، وبأنّنا صعقنا العالم برمّته بصمودنا وصبرنا ووصولنا إلى مبتغانا أو نكاد!!، رغم أنّ حدودنا ممزّقة شرّ تمزيق، وعلى أرضنا أعلام وبيارق مختلفة، وأغلب ثرواتنا منهوبة خارجيّاً وداخليّاً، إضافةً للاعتداءات التي أصبحت شبه أسبوعية من قبل الأعداء، وملايين المقهورين على مدّ النظر، تُفرض على أعينهم صور الانتصارات التي تحمل في طيّاتها لوحات مختلفة من النصر والتآخي والوحدة والعزيمة والنجاح في إطارٍ واحد!، وكذلك المؤتمرات والاحتفالات إضافة للتصريحات التي تؤكّد هذا الفوز الساحق على الكرة الأرضيّة بما رحبت!،
إنّ عقد الدولة المُتعارف عليه “طبيعيّاً” هو الشعب والجغرافيا والسلطات.. وأيّ خسارة جغرافيّة ولو كانت متراً مربّعاً هو خسارة الدولة برمّتها، وأي انكسارٍ جمعيّ عند أفراد الشعب هو خسارة للدولة بمٌجملها، وبالمقابل فإنّ أيّ ابتسامة شعبيّة جمعيّة في لوحةٍ ما تعني انتصار الوطن بأكمله، وما نشهده الآن ليس سوى انتصار السلطات مقابل هزيمة الشعب.. والفريق الذي يُشير في كلماته بخطأ الفارق بين الحكومة والدولة، عليه أن يعرف -أو أنه يعرف- بأن الخطر الأكبر عند فُرقة الشعب بمكانه الجغرافيّ عن السلطات! والسلطات “الآمرة” لهذا الفريق بهذا النعيق وأنكر الأصوات عليها أن تعتبر من التاريخ، وأنّ ثمّة سقوط هو أدهى وأمرّ من سقوط المناصب عندما يكون السقوط في أعين الشعوب أوّلاً، وأنّ هذا الفارق بمثابة فالقٍ زلزاليّ سيُطيح بالجميع عند أصغر هزّة لو حدثت عن جوع أو قامت بعد قتلٍ للخوف، وعندها لن تنفع كل مساعي إعادة حبال الثقة ولو نزلت من السماء، وكلّ ذلك مرهونٌ للأسف بيدها عند بقاء الشعب في دوره المُناط إليه بالبحث عن سبيل النجاة اليوميّ لا أكثر..
وأخيراً، قد يكون الشعور بعبثيّة الكتابة بغاية المرارة، وربّما يكون الصمت أكثر بلاغة، لكن من الواجب التذكير بالأمور الطبيعيّة لقوّة أيّ بنيان بمواطنيّته، وسُبل المواطنة وطُرق بناء المؤسسات الحقيقيّة معروف للجميع ومن البديهيّات، وغير ذلك لكم انتصاراتكم ولنا هزائمنا إلى أن يُحدث الله بعد ذلك أمراً .. وسلامتك ياوطن ..
إقرأ أيضاً .. قبل انهيار السقف ..
إقرأ أيضاً .. الميزان في دمشق ..
*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب