روسيا الاتحادية .. القوة العسكرية والعقيدة القتالية

إن التَّعرُّف على قوة روسيا الاتحادية (وأي دولة في العالم) لا تقف عند أرقام التسليح وعديد الأفراد، ولكن من خلال قراءة تلك المعطيات في إطار مفاهيم العقيدة القتالية والروح القومية والوطنية، وموازنة ذلك كله في إطار الاقتصاد الوطني المقارن بالنسبة لدول العالم، ليس من خلال الأرقام وحدها، ولكن بالتعمق في الفاعلية والدور، حيث تتربع الاعتمادية على عرش الفهم العميق للقوة ومكانتها، مع مقدرات التعافي وكفاءة التطور ومواكبة التطورات والتحديات. لذلك سنبحر في جولة مع الأرقام والمعطيات عن القوة العسكرية الروسية بصورة مقارنة، مع الاطلاع على العقيدة العسكرية ليس فقط كما توصفها الأدبيات الوطنية الرسمية الروسية، ولكن كما تُصَنَّف من قبل المُحلّليلن والمهتمين بالشأن العسكري.
كان الجيش الروسي من حيث العدد هو رابع أكبر جيش في العالم حتى أشهرٍ خلت، بينما يتربع اليوم في المركز الثاني بتعداد فاق مليوني فرد بعد الجيش الصيني، وهنا يجب أن نراعي مسألتين، الأولى أن ثلاثة من الجيوش الخمسة الأولى عددياً هي حليفة لروسيا، خلافا للجيش الأميركي غير الصديق. أما النقطة الثانية فهي أن كبر الجيش لا يعني القوة فقط ولكن ارتفاع تكلفة التجهيز والتدريب والدعم اللوجيستي والإداري، فالمسألة ليست نعمة صرفة بقدر ما هي مسؤولية.
ولأن التعداد وحده لا يعطي انطباعاً حقيقياً سنلجأ إلى مؤشر القوة لجيوش العالم والذي أيضا يضع الجيش الروسي في المرتبة الثانية بعد الأميركي، وهذا المؤشر يراعي العدد والتسليح والجاهزية والكفاءة. وهنا ألفت نظر القارئ إلى أن الجيشين الثالث والرابع حسب هذا المؤشر هما حليفي روسيا الصيني والهندي على الترتيب.
التسليح بالمعلومات ..
من ناحية التسليح والصناعة العسكرية، فإن الجيش الروسي مسلح بأقوى وأحدث التقنيات العسكرية العالمية، من انتاج وتطوير محلي وطني في نقطة تعتبر أهم ما في معادلات القوة العسكرية للدول ربطا بمفاهيم الاقتصاد الوطني، فأحد أهم العناصر العميقة في الدفاع والتسليح هو انتاج وبيع الأسلحة وليس اقتناؤها فحسب.
يمتلك الجيش الروسي ويُصَنِّع أفضل سلاح فردي عرف بالتاريخ وهو (رشاش كلاشينكوف) الغني عن التعريف، والأكثر إنتاجاً ومبيعا في التاريخ.
تمتلك الترسانة العسكرية الروسية أكثر من 4000 طائرة حربية، وهذا رقم أولاً يساوي عدد الطائرات الأميركية، وثانياً يعتبر من أهم عناصر القوة للجيوش، وهذه الترسانة الجوية تضم الطائرة المقاتلة الأكثر انتاجا ومبيعا في التاريخ (ميغ)، والطائرة المصنفة كأفضل مقاتلة عسكرية حتى اليوم (سوخوي). من الجدير بالذكر هنا أن القاذفات الروسية قادرة على تغطية الكوكب كاملا في مداها، وعلى إطلاق كل أنواع الصواريخ.
تعتبر الصواريخ البالستية أيضاً من أهم الأسلحة التي تمتلكها وتصنعها الدول الكبرى وبعض الدول الأخرى مثل إيران ودول صغيرة حتى مثل سوريا، والمنافسة فيها على المدى والحمولة، ويمتلك الجيش الروسي صواريخ بالستية بمدى يصل إلى 12 ألف كم وهذه صواريخ لا تملكها حتى الصين.
وفي هذا الإطار فإن الجيش الروسي يمتلك ثاني أكبر أسطول من الغواصات النووية بعد الصين وليس أميركا كما قد يتبادر للذهن، والتي تأتي بالمرتبة الرابعة، بينما تمتلك روسيا الغواصة النووية (بيلغورود) الأكبر والأقوى في العالم، والتي تَسَلَّمتها القوات المسلحة في 2022.
الصواريخ الفرط صوتية الأقوى في العالم تصنعها وتمتلكها روسيا في برنامج متقدم على كل دول العالم الساعية للحاق بها، ولا يعتقد الكثير من الخبراء بأن ذلك سيحصل على المدى المنظور، على أن الصين هي الدولة الأقرب لروسيا في هذا المضمار.
إذا كان الجيش الروسي يمتلك أكبر عدد من الدبابات في العالم، ويليه الجيش الأميركي، فإنه يتجاوز ذلك لامتلاك أكبر ترسانة نووية في العالم أيضا بواقع يصل إلى أكثر من 6000 رأس نووي. وهنا تلزمنا الموضوعية بالإقرار بأن حجم الترسانة النووية بعد امتلاك المئات منها لا يعود ذلك المؤشر الحاسم في التعبير عن القوة النارية، بقدر ما هو تعبير عن القوة الصناعية والعلمية، حيث أن السلاح النووي ردعي أكثر مما يكون قابلاً للاستخدام رغم أن الولايات المتحدة استخدمته في جريمة إبادة مدينتي هيروشيما وناكزاكي اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية، ولكن العالم اليوم يبدو أبعد ما يكون عن إعادة الكرة رغم جو التهويل الإعلامي في هذا السياق.
تحف فنية ولكن ..
إن ما تقدمه الصناعة العسكرية الروسية اليوم وبناء على خبرة علمية صناعية طويلة هو بمثابة التحف الفنية في عالم التسليح، ولا يبدو أن أحداً قادر على اللحاق بها في المدى القريب، فهي إضافة لما سبق تمتلك أقوى طوربيد في العالم (طوربيد يوم القيامة) القادر على عبور الهادي وتدمير مدينة على الساحل الغربي الأميركي، وتمتلك أيضا قاذفة (تي يو 160) التي تحمل أقوى محرك طائر في العالم، وصاروخ (سيتين) أو الشيطان الذي يحمل أثقل رأس نووي في التاريخ.
ولكن قيمة ذلك في معايير القوة الحقيقية لا تصرف بمعزل عن تلك الخبرة الضرورية، فروسيا تمتلك خبرة قتالية طويلة وهي التي خاضت أكبر الحروب في التاريخ ولم تمضِ فترة من التاريخ الحديث بدون أن يقاتل جيشها بشكل أو بآخر .. إن هذا العنصر بالغ الأهمية حيث أن الدروس العملية تسمو على المعرفة الأكاديمية بالضرورة، خاصة عندما تبنى واحدة منهما على الأخرى.
أما الموضوعية فهي أيضا تتطلب النظر إلى كل ذلك من خلال الأرقام الاقتصادية الوطنية المقارنة بين الدول، فالانفاق العسكري ونسبته من الناتج المحلي أيضا تعبر عن القوة، خاصة عندما تراعي مبدأ الكفاءة والفاعلية، فالرقم الكبير في الانفاق العسكري لا يُعتَدُّ به وحده بقدر ما يجب أن ينعكس على التطوير والبحث العلمي، وليس على مصاريف الدعم اللوجستي وتكاليف الانتشار والتوسع خلف المحيطات مثلا حيث تنفق الولايات المتحدة أكثر من 800 مليار دولار سنويا على ميزانية “الدفاع” في المرتبة الأولى عالميا، بينما تأتي الصين في المرتبة الثانية بميزانية 150 مليار، وروسيا في المرتبة الرابعة بحدود 80 مليار. ما يهمنا في تفاصيل هذه الأرقام أنها في الحالة الروسية قادرة على بناء واحد من أكبر الجيوش وأكثرها تقدما علميا وتقنيا، بينما تسعى الصين مثلا لزيادة الترسانة العسكرية تسليحا بأعداد القطع العسكرية لتفوقها بحجم الانتاج الصناعي، بينما لا تتمكن الولايات المتحدة من مجاراة روسيا في التقنية والتطور النوعي برغم أنها تصرف عشرة أضعافها في ميزانيتها العسكرية.
العقيدة القتالية والشخصية الحضارية..
اتبعت الولايات المتحدة عقيدة عسكرية عالمية على مستوى الكوكب منذ عقود طويلة، فهي قررت الانتشار حول العالم بقواتها المسلحة، لأسباب علمية جيواستراتيجية بالمناسبة لأن القوة العظمى تحتاج للتوسع، ولكنه توسع خطر قال عنه المنظر الاستراتيجي (جايكوب غريغل) تحديداً بخصوص الحالة الأميركية: “إن العزلة الجغرافية نعمة يجب عددم تبديدها بالإفراط في التوسع”.
قامت الولايات المتحدة بأكثر من مائة تدخل عسكري في مختلف دول العالم على مدى قرن من الزمان، لذلك تعتبر عقيدتها هجومية، بينما نجد أن الصين وروسيا تتبعان استراتيجيات أكثر دفاعية، فالصين اعتمدت عقيدة دفاعية من خلال سياسة “الردع المتماثل” لعقود طويلة، ما لبثت أن طورتها من “الدفاع” إلى “الدفاع النشط” وهو ما يمكن ترجمته عملياً بالجاهزية والاستعداد الأكبر للهجوم.
أما روسيا وأيضا لأسباب جيوسياسية بيِّنَة لجهة تموضعها القاري والبري الواسع، فهي تمتلك عقيدة دفاعية واضحة، ترنو للدفاع عن ما تسميه “حدودها التاريخية” وليس للانتشار والتمدد العسكري، وقد عبر الكريملن منذ أيام عن ذلك بوضوح في تصريحه عقب الكلام الذي أدلى به أحد النواب في البرلمان الألماني عن “تخوفه من وصول الدبابات الروسية إلى برلين” حيث قال: “قواتنا لن تصل إلى برلين، ونحن لا نسعى لتجاوز حدودنا التاريخية”.
لكن روسيا هي مبتكرة استراتيجية “الردع غير المتماثل” أو الرَّدع المتفوق، والذي يمكن فهمه ضمن سياق قراءة المعطيات الكثيرة عن التفوق التقني بالسرعة والقوة التدميرية للأسلحة الروسية التي مررنا عليها أعلاه برغم الانفاق العسكري الأقل بشكل واضح مقارنة بالدول التي تتسابق معها في هذا الميدان. إن ذلك يعود لنموذج الشخصية الروسية التاريخية التي تتصف بالعناد والفخر ورباطة الجأش، الشخصية التي مافتئت تحقق الانتصارات منذ انتفاضها على الامبراطورية التتارية منذ أكثر من خمسة قرون أيام القيصر (إيفان الثالث)، والتي انتصرت في الحربين العالميتين، كما أنها حققت واحداً من أكبر انتصاراتها من خلال عودتها للنهوض بزمن وأبعاد قياسية عقب تفكك الاتحاد السوفييتي.
هذه المعطيات تلزمنا ونحن نحاول فهم المواجهة الدولية الحاصلة، ومدى العمق الاستراتيجي الدولي والحيوي لروسيا بصفتها الأكيدة كرأس حربة لمجموعة كبيرة من الدول والشعوب التَّواَقة لإنهاء السيطرة الغربية المتفردة على العالم، وهي توحي بأنَّ المعارك التي تدور رحاها في أوكرانيا وسوريا وبعض المواضع المرشحة لإعادة الاشتعال، سوف لن تحسم بشكل فاصل وسريع لصالحها، ولكنه وبنفس الوقت من الواضح أن روسيا لا يمكن أن تهزم عسكرياً.
إقرأ أيضاً .. المواجهة الأطلسية الروسية .. هل تنتهي بزوال الاتحاد الأوروبي؟.
إقرأ أيضاً .. سوريا والحلفاء .. معادلات الجوع والعوز ..
يزيد جرجوس – كاتب وباحث – سوريا