رانيا كرباج: ألاحق شغف الشعر ويلاحقني.. والفن الصادق يبني حواراً
الرسم والشعر دفعاني على الطريق المرهِقة الممتِعة بحثاً عن هوية بصرية وفكرية

ألاحق شغف الشعر ويلاحقني.. هذا وإن كان العنوان, لكنه ليس كل شيء! ولا يُشكّل سوى ثمرة من ثمارها الناضجة. فهي فنانة تشكيلية ومحاضرة في كلية الفنون الجميلة, ومهندسة مدنية, أقامت عدة معارض فنية داخل وخارج بلدها سوريا, وشاعرة أصدرت عدة مجموعات شعرية, وكاتبة مقال وصاحبة رأي وموقف, وحضور ثقافي جميل ومهمّ جداً.
شكّلت تجربة رانيا كرباج ؛ تكذيباً للمقولة الشعبية “صاحب بالين كذاب”. فهي الصادقة في نظرتها وتعاطيها وخوضها للآداب والفنون وأهمية دورهما إنسانياً. لهذا كان الإنسان بطل أعمالها, فالإنسانية -كما تراها- مسؤولية كبيرة, والإنسان قضيتها. لذا تنوّه كرباج بأن المرأة إحدى قضاياها, لكن ليس في منأى عن الرجل. فقضية المرأة هي عائق كبير أمام بلوغِنا مجتمعات إنسانية عادلة تمنح أبناءها تربة خصبةً كي يكونوا فاعلين.
يمكن للقارئ أن يدرك مكانة كرباج, من خلال قناعة واحدة مررتها خلال الحوار, تعكس مدى الصدق والنضج اللذين تبدّا عنها.. إذ تقول إنها تحمل تجربتها في الأدب والفن على كتفَيها كما تحمل أطفالها.
إذاً… ألاحق شغف الشعر ويلاحقني.. ليس كل شيء, فضيفتنا اختصار للشغف الجميل.
.

.
“التجارب الصادقة تنطلق نحو الجمال”
هناك إجماع على أن أول انطباع تتركه أعمالك الفنية هو الشعور بالجمال والراحة معاً. هل مهمة الفنان أن يكّرس الجمال أو ينقله للمتلقي؟
- قد يكون الجمالُ قبلةَ الفنان التي يتّجه صوبَها ويصلّي, لكن للجمال هنا مفهوم مختلف فهو بعيد كل البعد عن المثالية وقريبٌ جداً من الصدق, الفنان الصادق أمام لوحتِهِ و طبعاً المُتمكّن من أدواتِه يستطيعُ أن يخطفَ قلوبَنا برهةً خارج تخبّطاتِ هذا العالم وأكاذيبِه ليمنحَنا تلكَ النشوة التي نُسمّيها “جمال” إنّهُ يضعُنا أمام ضعفِنا وأمام قوّتِنا عبر معادلة جمالية تُشبهُهُ وفي نفس الوقت تشبهُنا. وكلّما كانت التجربة أكثر صدقاً استطاعت أن تلامسَ قلب العالم و من ثم تنهَض كي تمضي على طريق النمو, لكن إلى أين تمضي التجارب التي تُحطم قيدَها في كل مرةٍ كي تنمو؟ أنا أعتقد أنها تأخذنا إلى ضفةٍ أبعد من الصدق وبالتالي؛ الجمال.
ثمة ثنائية تحملها أعمالك: الحزن والعذوبة.. الألم والأمل.. غالباً تضع لوحاتك؛ المتلقي أمام هذه الثنائية, أليس تحقيق ذلك صعباً؟
- من الجلي أن الحياة مبنيّة على الثنائيات, و الإنسان على اعتبارِه أحد تجليّاتِها الأكثر تطوراً, فهو بالتالي الأكثر حساسيةً وإحساساً بأمزجتِها و تقلّباتها. أما الفنان فهو من وُهِبَ أدوات استثنائية تمكّنه من التعبير عما تعجز عنه اللغة العادية, وكلّما كان أكثر التصاقاً بذاتِه الفردية وبالذات الجماعية كان أقدرَ على إنجازِ مُهمته.
.

.
“الفن الصادق يخلق حواراً”
غالباً تنقلين أفكارك عبر الوجوه والشخوص.. الإنسان هو بطل أعمالك (وقضاياكِ إنسانية) إنما لمَ هو دائماً محاط بهالة نورانية, كما لو أن شخوص لوحاتك ملائكة على الأرض تقول “هنا السماء”؟
- ليس الإنسان بطلاً في أعمالي إلا لأنّه البطل على مسرحِ الحياة, أرى أنه المعجزة التي تمخّضَت عنها سيرورة الطبيعة وصراعها مع ذاتِها كي تأتي بأفضل الثمار. الإنسانية إذن مسؤولية وعلينا أن نكون أهلاً لها, وأنا في أعمالي أحاول أن أجسّد تلكَ الشخوص التي أدركَت جوهَرها و اختارت أن تكون جنود الحياة في عملية الارتقاء, اللون الذهبي الذي أضيفُهُ على شكلِ هالاتٍ أو أجنحةٍ أو غيرها من الرموز, إنّما هو تعبير عن الطاقة الروحية التي تفيضُ من الإنسان عندما يصغي إلى صوتِ فطرتِهِ الجميلة و يحارب من أجلها, بالتالي فإنّ شخوصي ليسوا ملائكة إنما محاربين لا تلينُ عزيمَتُهم.
هل قال لك أحد إن أبطال لوحاتك في كافة فئاتهم العمرية لهن ذات ملامحك. ربما تتعمدين أن يكون وجهك منعكساً على أفكار لوحاتك؟
- الواقع بالنسبة لي كنزٌ بصري أستمدّ منه ما يُغني الحالة التعبيرية التي تهيمن على أعمالي, أنا لا أتعمّد رسم وجوهٍ تُشبهُني مع أنّني بالطبع مُتأثّرة بكل تلكَ الوجوه التي عشتُ معها, إنما أرسم الملامح التي أشعر أنّها قادِرة على ملامسة روح المُتلقّي و محاورتِها, يقولون إنّ الفن لا يملك أن يعطي أجوبة إنما مُهمّته أن يطرح أسئلة, أنا أرى أن على الفن أن يخلق حواراً, من هنا فإن من واجبهِ طرح الأفكار, إلى متى سنبقى مكمومي الأفواه بسبب بعض المنظّرين الذين فرضوا رؤيتَهم علينا!
.

“الوقوف على أرض ثابتة”
من الجلي أنك تستخدمين تقنيات وأساليب تحقق لك التميز. فأنتِ من أهم فنانات التشكيل. لا أدري إن كان ذلك منبعه الدراسة الأكاديمية أو الموهبة أو الاطلاع أو التجريب, أو ذلك كله؟
- أشكرك على هذا الإطراء, لكنّني و بصدق لا أعتبر نفسي من أهم الفنانين أو الفنانات التشكيليات. إنما أعرف جيّداً أنّني أمتلك موهبة وتجربة لا بأس بهما.. وهذا ما يدفعني للاستمرار, أما الأساليب والتقنيات فهي وليدة الدراسة والتجربة والإطلاع, والأهم من كل ذلك الشغف, وحدَه الشغف ما يدفعُ الفنان كي ينحتَ الأرضَ ويشكّل مجراهُ آملاً أن يبلغ يوماً وسعَ البحر.
قدمتِ العديد من المعارض الفردية داخل وخارج سوريا.. هل ينتج عن المعارض نقد فني مثمر أو آراء تثري تجربتك؟
- بالطبع فالمعرض هو مناسبة لإخراجِ التجربة إلى النور وبالتالي خلق حوار مع العالم الخارجي, إذ يتمكّنُ الفنان أخيراً من رؤية نفسهِ من مسافة تسمح له بالنقد الذاتي أولاً و من ثم تقبّل آراء الآخرين. لكن للأسف ليس كل فنان قادر على هذه المواجهة وليس كل النقد مثمراً أو مهتمّاً بإثراء التجربة, فهناكَ كلام يُرمى جُزافاً! وحدهُ الفنان الذي يقف على أرض ثابتة من التجريب والمعرفة يستطيعُ أن يأخذ ما يُغنيه ويرمي البقية.
.

“ألاحق شغف الشعر ويلاحقني”
ترسمين الشعر، وخلال عقد من الزمن أصدرت ربما 5 كتب. وباطلاعي على بعض نصوصك, وجدت لها ذات عذوبة لوحاتك وجمالها, تتمتع بلغة ثابتة ذات سقف عال, وناعمة رقيقة في آن واحد. لربما أنتِ ترسمين الشعر حقاً؟
- الشعرُ شغفٌ آخر يلاحقُني وألاحقُه, ولا أعتقد أنّني سأبراُ منه طالما أنّني أتنفّس هواءَ الأرض, لقد جعلَتني اللغةُ أجدّفُ بعيداً لأكتشفَ قاراتٍ وبحاراً منسيّةً في نفسي. أعتقد وببساطة أنني وجدتُ في الشعرِ شفائي وبقدرِ ما كانت النشوةُ عظيمةً كان الألمُ عميقاً, جلّ ما يؤرقُني الآن هو أن أنقلَ التجربةَ إلى العالم سائرةً في ركبِ الذين سبقوني على هذا الدرب, أنا أرسم الشعر -كما تفضّلتِ- لكنني لستُ الوحيدة التي أقومُ بذلك, فالشعرُ في جوهرِهِ طريقة تعبير عن طريق رسم الصور وتضمينِها أفكاراً و رموزاً و مشاعر, إنّه عالمٌ ساحرٌ وغني أتمنى أن أستحقَّ رفعَتَه.
إذاً كما تقولين “ألاحق شغف الشعر ويلاحقني” وفي الشعر كما أي نمط إبداعي, تبرز بصمة المبدع وشغفه, وما بين نصوصك اللونية ونصوصك الحرفية, أين تعبّر رانيا كرباج عن آرائها ورؤاها؟
- أعتقد في الإثنَين معاً, مع أنني أرى في الشعرِ مرونةً وسرعةً في إصابةِ قلب المعنى بينما يتطلّبُ الرسمُ زمناً من أجلِ بناء الصورة أو المشهد البصري, لكنّني أدين للإثنَين معاً في دفعي على الطريق المُرهِقة المُمتِعة من أجلِ البحث عن هوية بصرية وفكرية تُعينُني على التعبير وتقديم ما هو مُختلف وحقيقي ومُتمرّد في آن.
.

“همي الأكبر إنساني”
في كتاباتك الفكرية, أو نصوصك الشعرية, تحاولين استرداد ما سلبته المعتقدات والتقاليد من المرأة! (لا أحب الفصل الديماغوجي بين المرأة والرجل) إنما هل إبداعك ناطق رسمي باسم المرأة؟
- أنا مثلُكِ لا أحب الفصل, مع أنني أعبّر عن همومي كامرأة كبُرَت على رجعية وعنصرية المجتمعات العربية في ما يخصّ كل ما هو مؤنث, لكنني أعتبر أن همّي الأكبر إنساني, فما يقوّض المرأة ويُعيقها يقوّض الرجل ويُعيقُه وإن بشكل غير مباشر, نحن نبحث عن الشفاء.. وقضية المرأة هي عائق كبير أمام بلوغِنا مجتمعات إنسانية عادلة تمنحُ أبناءها تربةً خصبةً كي يكونوا فاعلين, سعداء, مُثمرين.
لمن لم يقرأ بعد (وصايا العطر- يدي ملطخة بالحب- أرض وورود- أين أنت- السماء هنا- أغنيات مشرقية) بتقديرك, ما الفوارق بين هذه الإصدارات على صعيد تجربتك الشعرية من داخلها؟
- مسيرتي مع الشعر بدأت بتدفّق فطري هو أقرب إلى العفوية منه إلى التجربة التي تُبنى على المعرفة والاطلاع, هذا الشغف الذي دفعني إلى كتابة الشعر في البداية دفعني لاحقاً إلى البحث في تاريخ هذا الفن و ما كُتِبَ فيه, من المؤكّد أن هذا الاطلاع شكّل فارِقاً أو تطوّراً في تجربتي ومنحَني ثقةً و قُدرة أكبر على التعبير.
.

“إذا أرادتِ الحباة أنا أريد”
تجريتك الإبداعية تتسع وتشمل عملك كمحاضرة في كلية الفنون الجميلة, ومهندسة مدنية, وتقيمين معارض فنية, وشاعرة وكاتبة… ولكِ حضور ثقافي جميل ومهم. ما الذي تطمحين إليه بعد؟
- طموحي الأكبر هو أن تَمنحني الحياةُ شروطَ الاستمرار, أنا أحمل تجربَتي على كتفَيَّ كما أحملُ أطفالي, إنّها مسؤولية و مُتعة في آن, لقد قلتُ للحياةِ نعم في البداية ومشَيتُ الطريقَ محاولةً أن أقدّمَ أفضلَ ما عندي. واليوم وكل يوم أكرّر كلمة نعم, إذا أرادت الحياة فأنا حتماً أريد.
ربما كان لديك فكرة أو ملاحظة أو رأي, أو سؤال وددت لو وجهته لك، وفاتني ذلك!
- أعتقد أن الأسئلة كانت عميقةً و كافية جعلتني أقفُ أمامَ نفسي و أعيدُ قراءتها من جديد, أدين لكِ بشكرٍ وامتنان كبيرين.
.
*روعة يونس
.