رأي

“رأس المال العالمي” المفترس .. يزيد جرجوس

يقول (كارل ماركس) في كتابه “رأس المال” ضمن مجلده الثالث الذي أتم جمعه وإعداده ومن ثم نشره بعد وفاة ماركس صديقه المفكر (فريدريك إنغلز):

“إن ارتفاع متطلبات رأس المال المُنتج كنتيجة طبيعية لتقدم الانتاج، يتسبب بانخفاض معدلات الربح .. وهذه نتيجة ستتسبب بانهيار حتمي للنظام الرأسمالي”.

في هذا المذهب يتوافق ماركس مع الكثيرين من علماء وفلاسفة الاقتصاد والاجتماع السياسيين، ومع الدراسة المتأنية لحركة المشاريع الإنتاجية والاقتصاديات أيضاً، يقول الدكتور ابراهيم علوش في إحدى دراساته حول النظام الرأسمالي الليبرالي:

“بعد أن تثبتت أركان نمط الانتاج الرأسمالي، وتحولت البرجوازية في الدول المتقدمة إلى مرحلة رجعية، وبات النظام الرأسمالي في مراحله العليا إمبرياليا، فإن الفكر الليبرالي أصبح أداة في يده لتفكيك كل حس جمعي سواء في الدول المتقدمة أو في العالم الثالث”

إن هذا وبتأمل لآليات وفحوى ما بعد الحداثة الساعية لتحطيم وتفكيك أي نسق عام جامع، تحت رعاية الليبرالية الغربية وبتوجيه مستمر منها، يدفع بالتساوؤل عن ما هو الذي يجعل من النظام الرأسمالي شغوفا لهذا الحد بفكرة التقسيم والتفتيت، غير دوافعه الانتاجية الاقتصادية التي تضمن له الدخل والتفوق والسيطرة.. وهذا يكمن في مواجهة ماذا؟!! إنه في مواجهة حالة التراجع الربحي الثابتة بحكم قوانين الاقتصاد والانتاج الطبيعية.

نعم إن “رأس المال العالمي” لن يقف مكتوف الأيدي تجاه هذه الآلية التاريخية، ورأس المال هنا أقصد ذلك الغربي المتحكم بالعالم والممسك بمعظم حيثيات وسائل الانتاج فيه منذ قرون، رأسمال شركات العملاقة العابرة للحدود والقارات بأذرعها والمتموضعة في الغرب برؤوسها ومراكز تجميع الثروة التي تكدسها، وهو يقوم بشكل علمي وممنهج بدراسة التحولات علميا ورصدها على أرض الواقع، فمن المعروف أن المال يستخدم العلم لأغراض تطوير مصادر الدخل والاستثمار والتسويق. لذلك يلجأ رأس المال لضمان نسق الإنتاج، ولتحقيق ذلك تقف مسألة التسويق في المقدمة.. فالحفاظ على الأسواق وخلق المزيد منها يشكلان النهج المستمر، وهنا يبرز السؤال المحوري في قضية السياسة العالمية الحالية، فما هي العلاقة بين الانتاج والتسويق وفتح الأسواق وبين الفوضى والقلاقل والحروب، إذ أن دارساً متعجلاً للصورة قد يجد تبايناً وافتراقاً بين هدفي التسويق والفوضى، ولهذا يلزمنا قراءة هادئة ومتمعنة لتفكيك المشهد المتكرر منذ عقود على الأقل.

 

إن هناك ترابطاً يكمن في خلفية المشهد بين هذي وتلك، وإلا فما الذي دفع الإدارة الأميركية للإعلان صراحة عن مشروعها “للفوضى الخلاقة” لو لم تكن تلك الفوضى استثماراً رابحاً لاقتصاد قائم على الشركات العملاقة.. فماذا تحقق الفوضى لها؟!

تحريك القطاع الأهم في الصناعة العالمية وخاصة في دول المعسكر الغربي وهي صناعة السلاح. حيث وخلافاً لما قد يظن الإنسان غير المختص فإن صناعة الأسلحة هي العصب المركزي للاقتصاد الغربي وليس أي شيئ آخر. وفي هذا المضمار المؤلم لا يقتصر دور الحروب على فتح الأسواق لبيع المنتج للمستهلكين المتحمسين، ولكن أيضا يلعب أدواراً كبيرة في التسويق لمنتجات يتم تجريبها عملياً و”إبهار المستهلك المحتاج” لا بل ويتجاوز ذلك لترويع المستهلك الصامت وتحويله من “غير محتاج” إلى محتاج ومذعور.

إتاحة الفرصة الواسعة لوضع اليد على الثروات الطبيعية وفي مقدمها النفط والغاز، إما عبر حكومات ضعيفة وتابعة كما حدث في العراق مثلاً حيث أبرمت الحكومة العراقية إبان الغزو الأميركي اتفاقيات حصلت الولايات المتحدة بموجبها على كامل انتاج النفط العراقي بين عامي 2003-2007 وبسعر دولار واحد للبرميل، بينما تقوم الولايات المتحدة بسرقة 85% من إنتاج سوريا من النفط منذ سنوات حتى اليوم، بسبب حالة التوتر والحرب التي أسست لها الولايات المتحدة ودعمت القوى المتمردة فيها بكل وسائل الدعم، طبعا ليس لأنها (القوى) تحمل قيما ما تسر الولايات المتحدة ولكن لأنها تيسر مشروع الفوضى وضعف قبضة الدول على أراضيها وخيراتها ضمن ذلك.

مواسم الإعلام الذهبية.. من أهم القطاعات الاقتصادية الحيوية والتي سيطر عليها الغرب لعقود طويلة وصار يبيعها أيضا للعالم، هو الإعلام.. وهذا بدوره تعد الأزمات والحروب والكوارث هي اللحظات الأنسب له والتي ترفع مستوى المشاهدة والمتابعة، أو لنقل بدقة “الاستهلاك” لدى زبائن الميديا العالمية، مما يجعل منها ضرورة شبه مستمرة ودائمة.

إغراء التقسيم وكل ما يحمله من تباينات الخوف المتبادل والاستثمار في هذا الخوف حتى يقال في أروقة السياسة الأميركية “لو أن كوريا الشمالية لم تكن موجودة، لكان علينا اختراعها”.. إنه العنوان الأهم وفق النظرة الجيواستراتيجية في كل ذلك، محور التجزئة السياسية التي تنتجها الفوضى والقلاقل، والتي تحمل في مخرجاتها المباشرة التقسيم وإضعاف الكيانات والدول والمجتمعات المستهدفة، مما يجعل منها فريسة أسهل في قضية التتبيع الاقتصادي.. هذا وحده تشرحه بشكل فاضح السياسات التي عملت بشكل دؤوب على تفكيك الدول وتقسيمها مثل يوغسلافيا واليمن والسودان والعراق. لقد كان من اللافت في تصريحات المسؤولين الروس وهم يتحدثون عن “رغبة الغرب  بتفكيك روسيا”، فهذا يأتي ضمن رؤية وفهم واضحين لأهداف السياسة الغربية على مستوى العالم، فالكيانات الضعيفة الناتجة عن التقسيم كانت على الدوام أكثر استعداداً لتقديم التنازلات الاقتصادية وإبرام معاهدات الإذعان طمعاً بالحصول على نوع ما من “الحماية”.

لهذه الأسباب يقف رأس المال العالمي المسيطر منذ فترة ليست بالقصيرة في موقع المتربص الحاضر للانقضاض على الدول والمجتمعات بصورة تزداد ضراوتها كلما أحس بالحاجة للحفاظ على الثروة وترميمها أو لجني المزيد منها، حدث هذا في كثير من الدول والأقاليم بصورة باردة كما يحدث في الخليج العربي مثلا، أو بصورة حادة كما يحدث اليمن حيث كان احتمال خروج السيطرة الجغرافية عن موانئ اليمن الحاكمة على طرق التجارة الدولية وخاصة مشروع الحزام والطريق الصيني، من يد المعسكر الغربي كافياً لإطلاق حرب مدمرة أتت على واقع البلد العربي ذو التاريخ الحافل بالحضارة تماما كما حدث مع سوريا والعراق، وقائمة طويلة من الدول والمجتمعات لن تنتهي في أكرانيا بعد التهام ليبيا وغيرها.

 

إقرأ أيضاً .. بعقل بارد .. من سوريا إلى أوكرانيا ..

إقرأ أيضاً .. الإسلام “في قفص الاتهام” ..

 

كاتب وباحث – سوريا

المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى