إضاءاتالعناوين الرئيسية

دعاني لبّيتُه … مراد داغوم

دعاني لبّيتُه … مراد داغوم

دعاني لبّيتُه  … لحد باب بيتُه..
غنت “الست” للحج، وبرأيي المتواضع فإن “القلب يعشق كل جميل” اختصرت كل جمال الغناء في واحدة. فقد تجاوز “بيرم التونسي” حدود المألوف في الغناء الديني، وصاغ نصاً هو آية بحد ذاته.
أكد بيرم على اللطف المحض في الطبيعة الإلهية، ثم تحدث في المقطع الثاني عن تجربته مع الإيمان وحواره مع ربَّه، وانتقل لوصف ما اعتراه أثناء شعائر الحج في المقطع الثالث، وأنهى بذكر الثواب وبالدعوة الكريمة لكل من يحبه أن ينال ما ناله.لا أبالغ إذ أقول أنني أعتبر هذه الأغنية من روائع السنباطي. ففي المقدمة الموسيقية، لا يمكن وسم حركة الإيقاع المقسوم وسرعتها إلا بأنها موسيقا لحن راقص، يثير في النفس مشاعر فرح بلا ابتذال عهدناه في الموسيقا الشرقية الراقصة التي صُمِمَت لمجرد تحريك الجسد. فبعد جملة التمهيد التي نفذتها الفرقة، وهي عبارة عن أربعة مقاييس تُعاد ثلاث مرات، خرج فيها السنباطي عن المعتاد في تمهيدات ألحانه، فقد اعتاد أن يمهد للحن بجملة بدون وزن ولا إيقاع، بينما ابتدأت الأغنية هنا بالإيقاع المقسوم مباشرة، لتدخل بعدها الجملة الموسيقية الرئيسية التي ارتأى الملحن أن يعطيها لآلة القانون في اختيار موفق جداً. لأتحدث عن تجربتي الخاصة في الاستماع لهذا اللحن في سبعينات القرن الماضي، أقول: شعرت مع بداية دخول آلة القانون أن روحي الساكنة دواخلَ ذاتي بدأت ترقص فرحاً وأنا متكئٌ في مجلسي، بينما تعطيني لوازم الوتريات القصيرة شعوراً بالاطمئنان عندما تؤكد على المستقر اللحني ببساطة شديدة، تشيع في النفس سعادة الارتياح بالرغم من الحركة السريعة نسبياً. وعندما تعيد الوتريات هذه الجملة بعد انتهاء القانون من طبقة عليا مع دعم من الناي، اتسعت حدود تلك السعادة لتغمر كل ما حولي، فتمنيت ألا تنتهي الإعادات. لكن السنباطي أنهاها بجملة تنازلية بسيطة جداً تمهيداً للتسليم البسيط المتألف من مقياسين تتم إعادتهما عدة مرات وتنتهي الإعادة بضربة واحدة تعلن بدء الغناء في اختلاف آخر عما اعتدنا سماعه من إعادات يحدد نهايتها المطرب وقتما يشاء.
دعاني لبّيتُه

هذا ما أعطى الأغنية تميُّزاً وخصوصية عن غيرها من الأغنيات الدينية التي سمعناها، والتي تبتعد غالباً عن الحركة الراقصة في هيكلها الإيقاعي، بل تسعى لتأكيد وقار الموضوع عبر أوزان ثقيلة تُشعر السامع رهبة الجِدية المطلوبة عندما تتضمن الأغنية أي فكرة دينية. لكن (القلب يعشق كل جميل) تتحدث عن مشاعر الفرح السامي الذي يغمر المرء عند تلبيته رغبات الذات الإلهية في الطاعة. تماماً كأغنيات الفرح بقدوم شهر رمضان الكريم، ولا سيما المصرية منها، والتي يغلب عليها الفرح الراقص. موضوع (القلب يعشق) مختلف تماماً عن موضوع (الثلاثية المقدسة) مثلاً، والتي أعطاها الملحن ذاته طابعاً مختلفاً في المعالجة اللحنية لأفكار النص التي تشبه فلسفة الإيمان أكثر من مجرد فرح إنساني بإنجاز روحي.

أمّا في (رباعيات الخيّام)، فقد احتاج الملحن ذاته لمزيج من الأساليب المختلفة لمعالجة الانتقال من فكرة الاستمتاع بمباهج الدنيا ثم محاكمتها المؤدية إلى الإعراض عنها وصولاً إلى التسليم العقلي الكامل باندماج الوجود كله في طبيعة الخالق الأوحد، هذا التسليم الذي هو الغاية النهائية للإيمان. المقام الرئيسي للأغنية هو البيات، تفرع منه الملحن إلى الراست، والكورد، مع تعريجات عرضية أخرى على النهوند. ولأنني لا أعترف بسطوة المقام على الموضوع، أحتاج إلى محاكمة العمل من جهة عادلة: هل استطاع السنباطي من خلال اعتماد هذا المقام عموداً للأغنية أن يضع المستمع في الحالة المرجوة من أغنية تصف حالة الفرح التي تعتري الحاج عند مباشرته الشعائر المقدسة؟ هل استطاع الملحن أن يوحي للسامع بالطمأنينة والراحة الروحية من خلال تنويعه المقامي والقالب الحركي المعتمد والوزن الإيقاعي المُراوِح بين المقسوم والوحدة؟ هل نجح الملحن في ترجمة فكرة الشاعر في بث الشوق لدى المستمع أن ينال بدوره ذلك الفرح السامي بزيارة الأرض المقدسة؟

عزيزي القارئ، في الرابط المرفق تسجيل استديو (مُختَصَر) للأغنية، يمكنك سماعها في أقل من نصف ساعة للإجابة عن الأسئلة الآنفة الذكر، أما عن ذاتي، فأنا مقتنع كلياً بأنه نجح تماماً في كل ذلك. أترك لك كل الحرية في تفاعلك مع هذا العمل متمنياً لك استماعاً طيباً وأياماً مباركة تُعاودك دوماً باليُمن والبركة!

القلب يعشق كل جميل https://www.youtube.com/watch?v=-DIO6XAKl8I

.

*(مراد داغوم .. مؤلف وموزع وناقد موسيقي – سوريا)

لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews/
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى