
لامجازفة بالقول: دراما الوطن ودراما الوطن المضادّ، والوطن المضاد في خرائط الأعداء كانتونات طائفية وإثنيّة ومذهبيّة متناحرة، وعودة إلى عصر ماقبل الكهف.
كلّنا نحبّ الوطن، وكلّنا نجترح القوّة، ونستبسل بشجاعة في وجه الغزاة والخونة في زمن أمست الخيانة فيه وجهة نظر؛ تتّخذ من نفاق العولمة وضبابيّة المعايير عكّازاً، ومن قلب المفاهيم والارتماء في حضن العدو حصناً وحصانة.
إذاً هو حبّ الوطن، ويبدو أن لهذا الحبّ لونين؛ لوناً مشرقاً يشعّ بالحياة، ولوناً مظلماً؛ فيه تتربّص النّزعة الإلغائيّة للآخر؛ متبنّية أحلاماً متوَهّمة عنوانها ومنطلقها التّطرّف العقائدي والانتحارالوطنيّ.
أين الحبّ والوعي في إسقاط مشاعر الحقد والكراهية لنظام حاكم على وطن هو ذاكرة البشريّة العميقة، وعلى شعب متجذر فيه تجذّرَ الأبديّة في سنديانة لا تموت؟.
حديثنا عن الدّراما، الّتي هي في جوهرها وطبيعتها فنّ تصوّر وتصوير الحياة وتجسيد الصّراع من منظور جمالي، ورؤية –واقعياً وخياليّاً- متطوّرة ومواكبة لفضاء واقع موضوعي أو متخيّل /حُلمي معنيّ بها ومعنيّة به، إنّ إلحاح الواقع والخيال الحالم يتولّد منهما جملة من الأسئلة المشروعة:
ألا تفقد الدّراما وظيفتها كفنّ حين تتخلّى عن شجاعتها في تبنّي الصّدق الخيالي الجماليّ؛ بغضّ النّظرعن هويّة وميول المُشاهد الإيديولوجيّة، وأين موقع الخيال الخلّاق حين تتحوّل الدّراما إلى ساعي بريد ينقل الرّسائل الإيديولوجيّة؟.
أليست الدّراما (هي الحياة – حُذفتْ منها اللّحظات المملّة !) كما عرّفها هيتشكوك؟.
أليست مُنتَجاً ثقافيّاً ومولوداً جميلاً؛ في نسجه يتفاعل الخيال والواقع؟ وهو تفاعل متبادَل بينهما بنسب متفاوتة، وهي ثقافة سمعيّة – بصريّة تخاطب وعي المتلقّي وذائقته الجماليّة، إضافة إلى كونها لغةً توثيقيّة للتّاريخ بأسلوب تعبيريّ مختلف، كما تمثّل مصادر ومراجع ثقافيّة للمستقبل وللأجيال اللّاحقة.
قبيل الحرب كانت الدّراما السّورية رغم العثرات الإنتاجية وعثرات التّسويق؛ الّتي تخفي غالباً أسباباً سياسيّة عالقة أو مفتعلة بين الأنظمة الحاكمة، يضاف إلى ذلك العقدة الرّمضانيّة، وهذه كانت وماتزال عقدة الدّراما العربية بشكل عام، حتى أمسى شهرُ الصّوم شهرَ عكاظ الدّرامي، والمحرقة لكثير من الأعمال الدّرامية المحترمة بسبب ازدحام العروض على الشّاشة الزرقاء، رغم ذلك؛ قبل الحرب أضحت الدّراما السّورية في مواسم قليلة المنافسَ الأقوى للدّراما المصرية؛ سيّدة الانتشار والحضور الفضائي والجماهيري العربيّ.
دراما الحرب: أتوقّع وأزعم أن المشاهِد المثقّف بصرياً ودرامياً يلحظ الفارق الفنّي، وعلى مستوى النّص ومحموله الفكري والطّرح والمعالجة والكلفة الإنتاجيّة؛ سيلحظ الفارق لصالح الإنتاج المتأخراليوم عن بداية الحرب، وأنّ دراما بداية الحرب في شقّها الّذي تبنّى كارثة الرّبيع العربي الدّمويّة، باندفاعته المدعّمة غربياً وعربيّاً قد تبنّتْ وأخذت على عاتقها مهمّة إطلاق الغرائز الفتاكة في مناخ من الاقتتال والقتل الحرّ الدّيموقراطي بين أبناء الوطن الواحد، فالوطن بين عشيّة وضحاها أمسى جحيماً وحلقة نار مغلقة، وللأمانة لم تكن الحرّيّة ولا الديموقراطيّة ولا العدالة الاجتماعية في بلدان الحريق العربي بخير، سواء قبل الحرب أو في أتونها وحتى السّاعة، وكلّ تلك الشّعارات الفاقعة بهتتْ مع الزمن وأصبحت مادة للتندّر الشّعبي السّاخر؛ بما يضمر من خوف أمنيّ ويأس وقلق على مستقبل يدور في حلقة الأماني والأحلام الفارغة.
من بوابة الجحيم ذاتها دخلت دراما الحرب والإنتاج الدّرامي، ووجد المُشاهد المتابع نفسه بين إنتاجين درامييّن متناقضين، وكأنّها تعرض روايتين مختلفتين على مسرحين مستقلّين، لارابط يربط بينهما، أحدهما على الأرض والثاني على المرّيخ.
نتحدّث عن دراما مموّلة ومنتَجة في الخارج وتروّج “للثورة المزعومة”على النّظام، وعن دراما وطنيّة سجينة الداخل محدودة الانتشار في وطن مطوّق أرضاً وفضاءً بالأعداء، والمُشاهد على الضّفتين يتلقى سيلاً من رسائل دراميّة متناقضة تكاد تخلو من الصّنعة؛ خاصّة دراما الخارج، أغلبها إن لم تكن كلّها مجرّد طبخة إيديولوجيا دراميّة على نار حامية كسلاح رديف في معركة هدفها إسقاط الدّولة، وشعارها المعلَن (إسقاط النّظام).
أمّا الإنتاج الدّرامي الوطنيّ؛ التّهمة ضدّه جاهزة: هو إنتاج النّظام و(مَن والاه)، إنتاج محاصر يتقاسم النّجاح والفشل والإحباط وأيَّ مؤسّسة وطنيّة أخرى طالها زلزال الحرب ونكبها، فأحدث فيها تحت ضغط السيل الإعلاميّ لأطراف العدوان ماهو متوقّع: أعمال دراميّة جادة مشغولة بمهنيّة عالية على مستوى الإخراج والأداء، فالفنّان السّوريّ بلا تحديد وبشكل عام فنّان مميّز ومتألق، لكن للأسف يغيب عن نسبة ملحوظة من الأعمال المنتجة القراءة والرؤية العميقة للواقع ولمأساة الحرب، لقد تفاعلتْ وتعاملتْ مع الأحداث (جرائم الغزو والقتل والاغتصاب والسّبي) كماهي غالباً، أبدعتْ في الأداء ورسم المشهد البصري دون الولوج إلى العمق الإيديولوجي والنفسي وتحليل الشّخصيات العنفيّة وأبطال النّزعة المتوحشة، لقد حملت على كاهلها أمانة الصّدق الواقعي/ الخياليّ الجمالي والفائدة الدراميّة، لكن لم تكن (وليس كلّها) على درجة كافية من التوفيق في طرح الهواجس والأسئلة الملحّة حول المفاجآت بجحيم إرهابيّ يتنقل ويتوسع وينذر بانهيار كيان دولة وضياع شعب.
على مستوى الخطاب بشكل عام كان بالإمكان اجتراح لغة خطاب خاصة في ظروف محنة وطنيّة كبرى ووضع شاذّ وخطير يتهدّد الجميع، فالإسقاط الدّرامي المباشر لإفرازات الحرب صورة وحواراً ومؤثّرات مساعِدة لايضمن عدم حصول سوء الفهم والتّلقي، ولا يمنع الانقسام الشّعبي الّذي عوّلت عليه أطراف العدوان ونجحت، والمتلقي داخل الوطن جملةُ ضحايا في ضحية واحدة:
هو ضحية الإرهاب وضحيّة إيديولوجيا دينيّة وسياسيّة مزمنة، وضحيّة ضخّ الضبابيّة الإعلاميّة وخلط المفاهيم القيميّة والوطنيّة، والمواطن الّذي أعني ينتمي إلى شريحة اجتماعيّة فقيرة مقلقلة الوعي، مهملة ومتروكة لأقدارها ،الضّحية الأخرى كانت الدراما المحكومة بعامل السّرعة الإنتاجيّة على حساب الجودة والوظيفة ودورها الحقيقيّ في تقديم وجبات دراميّة بمحتوى ثقافي ذي قيمة وأثر يحفر بَصمتَه في الوعي، ويرفده بقيم ومفاهيم جماليّة تضاف إلى متعة الفرجة وتزجية الوقت، وإلى جرعة من الاستقرار العاطفي والنّفسي اللّازمين لمواجهة جرائم التّنكيل والسّبي والتّهجير.
في المحصّلة لتلك المرحلة يلحظ المراقب المهتمّ أنّ حرب الدّراما قد اندلعت؛ ليس لأسباب تعني الدّراما وتتعلّق بها كفنّ وفرجة، بل كجزء من معارك ميدانيّة ماتزال محتدمة على الأرض، معارك طرفاها موالون للوطن متجاوزن بسأم ساخر معزوفة التّبعيّة والعمالة للنّظام، فتحصيل حاصل وردّة فعل متوقّعة أنّ شريحة اجتماعيّة واسعة ترى في انهيار النّظام النّهايةَ المريعة لبلد يعيش جحيم حرب مجنونة وحصاراً ليس أقلّ جنوناً ووحشيّة.
الطرف الآخر معارضة بل (معارضات)، منها من يعمل بالأجرة في خدمة مشروع التدمير والتّفتيت، ومنها من همّه الوطن بإخلاص، ومايزال على حبّه لوطنه وقناعته ورأيه الثّابت في العدوّالحقيقي وفي العدوان، لكنّه يهمل الواقع الموضوعي المأساويَ المستجدّ بسبب حرب على بلد تكالبت عليه الأمم .
لا شك أن الدّراما السّورية اليوم قد تجاوزت المحنة، وتخطو وتتقدّم إلى الأمام بخطوات رصينة وواثقة، ولايعكّر ألقها أو يفلّ من عزيمة مبدعيها عمل هابط درامياً هنا وعمل مسيّس ومتكلّف بشكل فجّ ومباشر هناك.
الدراما السّورية بخير،وشعلة المنارة عادت للتوهّج بالحبّ والعطاء والجمال.
إقرأ أيضاً : هل يمكن للحرب أن تشتقّ لأهوالِها معانيَ رومنسيّة !؟
إقرأ أيضاً : أدونيس .. خيرُ البلاد ماحملك ..