رأي

حبر سياسيّ على ورق .. غسان أديب المعلم ..

حبر سياسيّ على ورق ..

 

“كلّ المحاولات لتجميل السياسة تنتهي بالحروب”

– والتر بنجامين –

انتهت بالأمس الجولة التاسعة عشرة من مفاوضات آستانة بين الدول الضامنة (روسيا، إيران، تركيا) في العاصمة الكازخيّة نور سلطان، ولم يخرج البيان الختاميّ عما هو مُعلن ومكتوب ومتّفقٌ عليه في بيانات الجولات السابقة، رغم إضافة بعض مساحيق التجميل في بعض البنود الطارئة وفقاً للأحداث، وربّما لم يشذّ البيان في كلماته عن التنديد والاستهجان والإعراب عن الأسف التي أتخمت كلماته أُذن المواطن السوريّ بشكلٍ خاص والعربيّ بالعموم فيما يُسمّى بِـ (بيانات الجامعة العربيّة).

 

فبيان الدول الضامنة عاد ليؤكّد على سيادة سوريا واستقلالها وسلامة أراضيها!!، في الوقت الذي تحشد فيه إحدى الدول الضامنة -تركيا- المزيد من قوّاتها العسكريّة عند الحدود الشماليّة لسوريا، لتنفيذ مآربها وأطماعها في احتلال المزيد من الأراضي السورية بعمق ثلاثين كم تحت مُسمّى المنطقة العازلة أو الآمنة بذريعة الحد من خطر حزب العمال الكردستاني والفصائل المتحالفة معه على تركيا، مستندة في ذلك العدوان على اتفاقية أضنة من جهة، والميثاق الملّي التركيّ المُلزم لأيّ حكومة والذي تمّ توقيعه عام 1919.

 

وبمقابل هذا الحشد تحضر اللغة المتهاونة الضعيفة من قبل الحلفاء بنظر أعين الشعب السوريّ، فالروس أعلنوا عبر تصريحاتهم بأنهم (حاولوا إقناع أنقرة بعدم جدوى التصعيد في الشمال السوريّ)، ولم يفهم السوريّون من هذه اللغة الناعمة سوى أنها بمثابة ضوء أخضر للعدوان، وتتوافق مع مقولة جورج أورويل:

“لغة السياسة تمّ تصميمها لتجميل الكذب ليبدو صادقاً، وليكون القتل محترماً” ..

 

رغم تفهّم السوريّين للموقف الروسيّ الضعيف أمام تركيا، لاعتبار أن أولويّاتها هي مصالحها أوّلاً، وحسم الحرب في أوكرانيا، والتي على مايبدو بأنّ سعيرها سيزداد، وخصوصاً بعد زيارة الرؤساء الأوربيّين للعاصمة كييف، وتقديم الدعم وبلغةٍ قويّة لها، والذي ترافق مع وعود الرئيس الأمريكيّ بزيادة الدعم المالي لأوكرانيا، مع إعطائها المزيد من الأسلحة النوعيّة التي ستدخل الحرب قريباً جدّاً، إلا أن هذا التفهم تحوّل عند السوريّين إلى نوعٍ من انعدام الثقة، وخصوصاً مع الموقف المُماثل الأخير للروس في استدعائهم للسفير الاسرائيليّ في موسكو وسؤاله عن مسألة قصف مطار دمشق الدولي، وأنها لن تسمح بأن تصبح سوريا ملعباً لتصفية الحسابات بين الآخرين!..

ورغم أنّ اللغة “سياسيّاً” في الموقف مع إسرائيل أقوى من اللغة السياسيّة مع تركيا، إلّا أنّ تلك القوة لم تخفِ إنعدام الثقة والإحباط عند السوريّين بالعموم سواء من الحليف أو الصديق وأكثر.

فالواقع السوريّ الداخليّ يُنذر بتصاعد الكارثة التي يعيش في ظلّها أكثر أمام الشعور بعدم التقدّم للأمام ولو قيد أنملة، فالسوريّون يشعرون بالحُكم عليهم بالموت البطيء أمام لامبالاة أهل القرار سواء في السياسة أو الاقتصاد، والانحدار على كافّة المستويات، ولا وجود لبارقة أملٍ إلّا كالحبر على الورق، أو عبر الخطابات على المنابر، فلا خطّة ولا حوار ولا مسؤولية ولا من يحزنون ..

 

فقدان الثقة هذه، هي أخطر وأدهى وأمرّ نتائج الحرب، و لم أجد تعبيراً يصف الواقع والسياسة الراهنة أكثر من مقولة الأديب واسيني الأعرج:

“أنا كذلك أحزن عندما يحزن وطني، لكنّني أكره السياسة رغم أنّها تأكل معنا في الإناء نفسه، وتنام معنا في الفراش نفسه، وأحياناً كثيرة أشعر بأنّني بلا وطنٍ على الإطلاق”

 

الغربة في الوطن، هي أكثر المشاعر قسوةً، وليت أهل السياسة يعلمون بأنّ الحبر إن لم يترافق مع الحوار لأجل مشروع وطنيّ، فلا وطن للجميع على الإطلاق.

*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحتنا على فيس بوك

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى