جن الربع !!..
يقال “جن الربع” حين تتغلب نسبة المجانين على نسبة العقلاء.
بداية الكلام أعلن إخلاء مسؤوليّتي من أي كلمة أو مُصطلح أو تعبير ينافي العقل والمنطق والذوق العام، فأنا وعلى ما أذكر من السوريّين الذين بالكاد يحتفظون ببعض خلايا الدماغ النشطة المتبقّية التي تساعد على قراءة الأحداث و ربّما إجادة الكتابة نوعاً ما..
فالحدث يقول ووفق تصريحٍ “رسميّ”، وأُذكِّر أنّ الرسميّ تعني ” المسؤول العاقل”.
التصريح يقول: إنّ عدد المرضى النفسيّين السوريّين قد فاق المليون بـ “طبشة” ، والطبشة بحسب ذاكرتي التي مازلت أحتفظ لحسن الحظ ببعض منها، هي رقم يساوي جزءاً من الكلّ، ولا تمسّ معنى “البطش” إطلاقاً.
أيّ أن المليون مريض هم مليون ومئة ألف تقريباً، ووفقاً للتصريح الرسميّ أيضاً، فإن عدد المرضى النفسيّين الذين لم يعرف الطبّ النفسيّ سبيلاً لهم فاق المئة والخمسة والعشرين ألف مريض متروك لرحمة الله وتطوّر العلم لمعرفة هذا المرض السوريّ الغريب و طرق علاجه، في حين أشار المصدر إلى بلوغ حالات الاكتئاب المسجّلة في السنوات العشر الأخيرة قرابة ربع مليون حالة، وبلغ عدد حالات الانتحار بما يقارب أربعة آلاف حالة، والأهم أن أربعين بالمئة قد حصلوا على الدواء المناسب لحالاتهم المختلفة..
لكن المشكلة الأكبر تكمن في مكان آخر..
فنحن في مجتمعٍ شرقيّ، وإن لم تخنِّي الذاكرة فنحن أعداء لشيء اسمه الغرب، وهذا المجتمع الشرقيّ العظيم يخجل من الذهاب للأطباء النفسيّين بالعموم وليس كالمجتمع الغربيّ المجنون، وماذُكر من أرقام ربّما كانت للأكثر شجاعةً من هذا المجتمع، أو من الذين فقدوا السيطرة على أنفسهم فكان نصيبهم الإسعاف المارستاني.
والنسبة، أي المليون وبضعة ألوف، تكاد تشكّل عشرة بالمئة من البالغين ممّن هم على قيود الحياة في سوريا، وبحسب ذاكرتي المتواضعة أنّنا نصل لمرحلة البلوغ عند الفطام، فتخرّ لنا الجبابرة ساجدينا في هذا الشرق العظيم!!.
لكن ماذا عن السوريّين الذين أصابهم “البطش” وهم أكثر من “الطبش” بكثير؟.
وماهي نسبتهم؟.
وإلى أيّ درك أسفل قد وصلنا مع المرض؟.
بل ماهو المرض الذي أصابنا وخالف كلّ العلوم؟.
بحسب بقايا الذاكرة، إن “فعل خالف” مشتقٌّ من مخالفة، والتي تعني تجاوز القانون والعياذ بالله، وأذكر أنني سمعت قبل المرض لعقودٍ كثيرة أننا في دولة مؤسسات وقانون، تخوض حرباً ضدّ العالم أجمع، وبالوقت نفسه تسير غير آبهةٍ بالمنعطفات التاريخيّة وتنتصر عليها جميعاً دون رحمةٍ أو هوادة، وماضيةٌ في مسيرة التطوير والتحديث وقافلتها تسير وكلّ كلاب العالم أجمعين تعوي من الحسد لمسيرتنا المظفّرة.
وهنا لا بدّ من تشخيص المرض أوّلاً..
فرغم الدمار الهائل الذي أحدثته الحروب للقطاع التربوي ودمار المدارس وفقدانها مستلزمات التعليم وألف باء المقوّمات، إلّا أنّ ذلك لن يمنعنا من تعليم البيسبول لأطفالنا وتدريبهم وإقامة معسكرات مغلقة ومباريات ودّية لنتفوّق في هذا المجال على أصحاب اللعبة من الأمريكان الأعداء، وبذلك نضيف انتصاراً ساحقاً على الغرب المنهار نتيجة الانتصارات السابقة حتى في المجال الرياضيّ..
أمّا في مجال الطاقة، فالمسؤول “الرسميّ” يقول إننا سنصل لمرحلة تصدير الكهرباء للدول المجاورة، وهذه رحمة مابعدها إلّا رحمة السماوات بأن تصفح “دولتنا” عن دول الجوار وتصدّر لهم الكهرباء.
في حين أن ذاكرتي تقول إنّنا نعيش على الليدّات الصينيّة بعد أكثر من عشرين ساعة قطع في اليوم الواحد، وربّما أكون كاذباً فلا عتب على بعض ما تبقّى من العقل.
وبحسب مصدرٍ “رسميّ” أيضاً، فإنّنا نستورد مليون طن من القمح لتوفير احتياجات البلد المنتصر، وإذا “الله ماكذّبلي خبر” فإنّ البلد المقصود هو سوريا التي كانت تُطعم روما وأستغفر الله العظيم لو كنت كاذباً فيما أقول.
أمّا “الرسميّ” “بتاع” الزيت والزيتون، وهنا أتذكّر أنّ الزيت هو سائل أخضر اللون كان على موائدنا في العهد القديم، فإنّ هذا الزيت سوف يتمّ تصدير الفائض منه وبالتالي سينخفض سعر الباقي في الأسواق، ولا أدري كيف تمّ إحصاء الإنتاج قبل موسم الحصاد، لكنّ على ما أذكر أننا في سوريا التي تقهر المستحيلات وتصنع المعجزات وكلّ شيء وارد.
أمّا “بتاع” التموين والكالوريز، فلم أعد أذكر تدخّلاته الإيجابيّة على كافّة المواد لكثرتها وإيجابيّاتها، بحيث وصل سعر السيد الفروج، وهو طائر يأكله الإنسان على ما أعتقد، لأسعارٍ فلكيّة.
نصل إلى البيض الذي أضحى حُلم اقتنائه ضرباً من الخيال، وبصراحة فقد نال البيض شُبهة المعنى، وعذراً من السادة القرّاء بسبب مرض الانفصام، فالبيض هو إمّا ماتنتجه الدجاجة، أو أنّه يعني “الكذب الفاضح” بلهجتنا العامّة..
وبالتأكيد فإنّ المقصود هو بيض المائدة، فمعاذ الله أن يبيض مسؤولونا “الرسميّون” وتتشابه الحمير علينا، رغم أنّ الحمير لا تبيض، لكن في سوريا كلّ شيء وارد.
وكذلك الأمر، فإنّنا في مسيرتنا المظفّرة أبهرنا العالم بأسره بأننا مانزال على قيود الحياة رغم فقدان مستلزماتها، وهذا الإبهار يُضاف لانتصارات وانجازات المسيرة الساحقة الماحقة للكرة الأرضيّة، وعليه فقد أعلن “الرسميّون” التأكيد دائماً على متابعة الكفاح والنضال والحرب، رغم أنّنا منتصرون.
لكن “رسميّينا” لا يعرفون الرحمة مع الأعداء ويريدون شطبهم عن قيود الحياة وإزالتهم من التاريخ!!
وحال انتخاباتنا، بحسب “الرسميّ”، تقول إن الغرب يحتاج إلى مئة سنة للوصول إلى ديمقراطيّتنا، وعذراً من خيانة الذاكرة، لأنني لا أعرف معنى كلمة ديمقراطيّة، لكنّنا على الأغلب مُعتادون عليها ولذلك كتبها القلم بشكلٍ تلقائي.
ويُحسب أيضاً للمسيرة المُظفّرة وعلى انتصاراتها المُتتالية أنّ شعبها أصابته “الفرحة الهستيريّة” جرّاء كمّ الانتصارات، وبسبب هذا الفوز العظيم يرمي الناس بأنفسهم للتهلكة، عفواً للبحر، لأن قلوبهم لم تتسّع لهذه الأفراح والأتراح.
فعلى ما أذكر أن الضحك ينشّط عضلة القلب، لكن لكلّ زيادة نقصان، والضحك المتواصل قد يؤدّي لأمراض القلب والسكتات القلبيّة والدماغيّة بآن.
فما نكاد نفرح بالأعراس الوطنيّة حتى يأخذنا الفرح للجنون بتوالي الانتصارات.
وما تكاد صدورنا تنشرح لنصر حتى نعيش النصر الذي بعده.
تبّاً لهذا الفرح المتواصل الذي لا ينقطع، اللهم أغث مسؤولينا “الرسميّين” بالحزن ليتوازن الأمر، فالمرض الهستيريّ الذي أصابنا جرّاء انتصارات “مسؤولينا” سيدفعنا للانتحار أسوةً بالدول المتقدّمة البالغة الحدود التي لا تُصدّق من الرفاهية، وعليه فإن سكّانها ينتحرون من فرط السعادة.
اللهمّ أنزل على المسؤولين “الرسميّين” الصواعق النازلات الماحقات الفاتكات وأهلكهم ولا تذرّ منهم أحداً لفائض الفرح والسرور الذي أتخموه في أعماقنا.
اللهمّ أدخلهم جهنّم من أوسع أبوابها فقد مللنا الجنّة التي نعيش بها وأصابنا الضنك من فائض البهجة الذي نشعر به من محيّا وجوههم وفرط ذكائهم..
المرض الحقيقيّ الذي ابتلانا الله وأقداره به بعد التشخيص، هو أنتم أيها “العقلاء” الذين لم تشابهوا عاقلاً في هذه الدنيا.
وعلى ما أذكر فإنّ جميع السوريّين كانوا يشتمونكم قبل المرض بكرةً وأصيلا، ويتمنّون لكم المرض جهاراً نهاراً في تلافيف باطن عقولهم.
وعذراً، لا أعلم معنى كلمة “عقل”، فقد جنّ “الربع” بأكملهم مع هؤلاء “الرسميّين العقلاء”.
ومازلت أحفظ بذاكرتي مثلاً شعبيّاً يقول: إذا جنّ ربعك، عقلك ما ينفعك.
وما على المجنون حرج.
عافانا وعافاكم الله ..
إقرأ أيضاً .. قال “دولة مؤسسات” قال !! .. “فيفتي فيفتي”
غسان أديب المعلم ..