جمجمة جبل إيغود التي أطالت عمر الإنسان
أعاد علماء تفحص جمجمة جبل إيغود المنسية للإنسان البدائي، كان عثر عليها في مغارة بجبل “إيغود” الواقع على بعد 50 كيلومتراً جنوب شرق مدينة أسفي بالمغرب.
بصورة لم تكن متوقعة، تحولت أنظار العلماء إلى المغرب، في حين أنها كانت لعقود من الزمن متركزة في بحثها عن أصل الجنس البشري على منطقة شرق إفريقيا، والبحث الطويل عن إجابات حول نشأة الأجناس البشرية وتطورها، قاد العلماء من شرق القارة السمراء إلى غربها. وأصبحت المغرب بمثابة مهد جديد للبشرية.
في عام 2004 تمت العودة مجدداً إلى التنقيب في مكان الأحفورة، ووجد المتخصصون بقايا عظمية متحجرة تتمثل في جمجمة وفك وأسنان وعظام ساق وذراع لخمسة أشخاص على الأقل، من بينهم طفل وصبي، معظمها في طبقة واحدة احتوت أدوات حجرية أيضاً.
وكان عمال مناجم “الباريت” قد عثروا في عام 1961 في كهف بجبل “إيغود” على بعد 75 كيلو متراً من الساحل المغربي الغربي على جمجمة بتكوين بدائي مدهش دفع إلى تصنيفها في البداية إلى جنس النياندرتال الإفريقي.
المفاجأة شهدها عام 2017، حين كشفت عمليات تحديد عمر هذه البقايا العظمية للإنسان العاقل “هومو سابينس” والنوع البشري الذي ينتمي إليه جميع البشر على وجه الكرة الأرضية، عن عمر يبلغ تحديداً 315 ألف عام، فيما كان يعتقد في السابق أن عمر هذا النوع يعود إلى 195 ألف عام، وذلك اعتماداً على بقايا عظمية كان عثر عليها في موقع “أومو” في إثيوبيا. وبذلك أضاف هذا الاكتشاف الهام إلى تاريخ الجنس البشري على الأرض أكثر من 100 ألف عام أخرى.
قبل هذا الاكتشاف، كانت أقدم بقايا معروفة للإنسان العاقل الحديث تشريحياً، أي الإنسان الحالي، هي بقايا أومو (Omo 1 و Omo 2)، والتي تتكون من جمجمتين اكتشفتا في أثيوبيا وتم تأريخهما بعمر 195 ألف سنة، ولديهما سمات مماثلة لجمجمة فلورسباد التي يرجع تاريخها إلى 260 ألف سنة مضت، والتي وجدت في الطرف الآخر من القارة، في فلورسباد قرب بلومفونتين في جنوب أفريقيا ونسبت إلى الإنسان العاقل على أساس ما وجد في جبل إيغود.
في ظل مناخ جاف نسبياً، كانت بيئة جبل إيغود بيئة منبسطة نسبياً، مغطاة بشجيرات موزعة على المكان إلى حد ما، وعثر في جهتها كذلك على مجموعة من أحفورات خيول وأبقار وغزلان ووحيد القرن وحيوانات مفترسة أخرى، وفي هذا الشأن، يقول عالم الأنثروبولوجيا القديمة جون فليجل من جامعة نيويورك: “البقايا التي تم العثور عليها يبلغ عمرها ضعف أقدم أحافير وجدت في السابق للإنسان العاقل”.
وتؤكد نتائج دراسة نُشرتها مجلة “Nature” أن الإنسان العاقل القديم طوّر أولاً ملامح وجه حديثة، فيما بقي الجزء الخلفي من الجمجمة ممدوداً كما كان الحال عليه لدى أسلاف الإنسان الأقدم، ورصد العلماء من جمجمة جبل “إيغود” المغربي المدهشة أن الوجوه تطورت إلى سمات حديثة أسرع من الجمجمة والدماغ واتخذت تدريجياً الشكل الكروي الذي شوهد في أحافير “هيرتو بوري” بإثيوبيا وفي الإنسان الحديث.
يقول جون جاك هوبلين، عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي، وهو من أوائل المهتمين بأحافير المغرب: “لقد كانت عملية طويلة، ولم يحصل الناس على مظهرهم العصري بين عشية وضحاها”، وبدراسة فريق هوبلين للبقايا الإنسانية المتحجرة التي عثر عليها في المغرب “أدركوا أنهم استوعبوا جذر وأصل الإنسان بأكمله،” حسب تعبير هذا العالم الفرنسي.
وتوصف جمجمة جبل “إيغود” بأنها من الجماجم ذات الطبيعة الانتقالية لدرجة أن تصنيفها على وجه التحديد يمثل مشكلة حقيقية، ولذلك أطلق عليها الفريق اسم الإنسان العاقل المبكر، ولا يشير فريق هوبلين إلى أن إنسان جبل “إيغود” القديم كان الجد المباشر لجميع البشر المعاصرين الآخرين، وعلى الأرجح، كان هؤلاء الأشخاص القدامى جزءاً من مجموعة كبيرة من السكان المتزاوجين الذين انتشروا في جميع أنحاء إفريقيا عندما كانت الصحراء خضراء منذ حوالي 300 إلى 330 ألف عام.
الاختلاف الرئيسي بين شكل الجمجمة المكتشفة وجماجم الإنسان الحديث هو استطالة تجويف المخ. وطبقاً للباحثين، فإن ذلك يدل أن شكل المخ، وبالتبعية وظائف المخ على الأغلب، تطورت على مدار حياة سلالة الإنسان العاقل في فترة حديثة نسبياً، ومن المرجح أن التغيرات التطورية التي طرأت على شكل الدماغ البشري هي ظاهرة مصاحبة لتغيرات جينية في تنظيم المخ البشري وتطوره وكذلك الوصلات الداخلية الخاصة به، وقد يعكس ذلك أيضاً حدوث تغيرات تأقلمية في طريقة عمل المخ البشري، وهذه التغيرات من شأنها أن تؤدي إلى تكُّور شكل المخ البشري، وأن تصاحب تضخم منطقتين في مؤخر المخ على مدار آلاف السنين من التطور البشري.
سكان جبل إيغود القدماء كانوا يملكون أيضاً أقواساً حاجبية سميكة، ولا يظهر عليهم ظاهرة بروز الفك، ومرحلة تكوّن أسنانهم مماثلة لأسنان أطفال أوروبيين معاصرين في العمر نفسه، مع اختلاف سرعة نمو جذور الأسنان فهي تنمو بصفة أسرع في حالة الإنسان الحديث، وفي حالة القردة العليا وبعض أشباه البشر فهي تنمو بشكل أسرع من كليهما، وكذلك الحال مع سرعة نمو تيجان أسنان البشر المعاصرين.
وفي المجمل فإن العينات المكتشفة في جبل إيغود تشبه تلك التي تنتمي إلى الحضارة العاترية والحضارة الإيبيروموريسية.