“جردة حساب” .. غسان أديب المعلم

لقد حان الوقت لكي تأخذ سوريا بعين الاعتبار أنها متأخّرة عمّا يجري في المنطقة، وأنها ليست بمنأى عن التغييرات الجارية في الشرق الأوسط..
وبذات المقاربة لتصريحات الوزيرة “رايس” أثناء وجودها على رأس الدبلوماسيّة الأمريكيّة، لم تُخفِ الجنرالات العسكريّة الأمريكيّة رأيها في موضوع دفع سوريا للثمن، بعد الانقضاض على العراق وجعله أسيراً من بابه لمحرابه عبر تقسيمات متّفقٍ عليها بدساتير وقرارات ستكبّل العراق لعقودٍ من الزمن، ويكون الوقت سانحاً لتكبيل الجناح السوراقيّ الآخر بعده مباشرةً ولعقودٍ أيضاً تتبدّل فيها أفكار وهموم وقضايا كلا الشعبين، وربّما استبدالهما بشعوبٍ أخرى تتماهى في تطلّعاتها مع الشيطان الأكبر، وتنفّذ أجندته كالروبوت، وتسير كما هو مخططٌ لها في خدمة الأعداء الحقيقيّين للبلاد التي ستغدو بلداناً وبلدات ومقاطعات وكانتونات كلّ منهم يحمل علماً مختلفاً ويطرح شعاراً مناقضاً وتحكمه الزعامات الدينيّة المُصطنعة، وتُدير شؤونه حفنةٌ من الخونة تستنزف خيراته، وتشحذ عبر ميزانياتها ثمن رغيف الخبز من البنوك الدوليّة كي لا تقوم للبلاد أو البلدات قائمة، وليتسنّى تحقيق الحلم الصهيوني ليس بالوصول للفرات أو النيل فقط، بل للقضاء بشكلٍ تامٍ على حلم قيامة الدولة السوراقيّة، والتي باعتبارهم كانت أوّل من حطّم آمالهم بإنشاء دولة قبل ثلاثة آلاف عام، فوَجب الثأر على أشدّه..
إذن .. المُتابع الجيّد والقارئ الحرّ كان على علمٍ مُسبق بما سيحدث، أو يتوقّع الفوضى على أقلّ اعتبار، وبقي التوقيت للتنفيذ مجهولاً رغم أنّ تفاصيله كانت تمضي على قدمٍ وساق عبر أكثر من أجندة، إلى حين اعتبار “الأزمة السوريّة” و”الخراب” الذي كانت بدايته في مثل هذه الأيام قبل اثني عشر عاماً السبب المحوريّ الأوحد لما وصلت إليه البلاد الآن!.
وعلى فرض سؤال غالبيّة السوريّين عن بداية تلك الأحداث والمكان الذي سيختارونه لو قدّر للزمن أن يعود إلى الوراء، فالندم سيكون هو العنوان الأوحد لكلّ مافات..
ولا أقصد الاصطفافات بالطبع، فلكلٍّ فكره وحقّه، باستثناء تغليب محبّة الأشخاص أو المناطقيّة أو الانتماء الدينيّ على فكرة الوطن الأكبر، وأجزم بأنّ الغالبيّة أيضاً كانت تتطلّع إلى دولة مؤسسات حقيقيّة دينها المواطنة، لكن العمل المُسبق “خارجيّاً وداخليّاً” كان أكبر بكثير من حجم هذه التطلّعات ونجح بذلك الأمر لنصل إلى هذه النتيجة من الندم..
ولأنّ النتيجة لها أسبابها فلا بدّ من بدء المعالجة أو استذكار الحلول في حينها بدلاً من معالجة النتائج، فما هي الاجوبة لو كان السؤال على سبيل المثال عن رغبة السوريّين بإمارةٍ دينيّة تحكم على الشريعة الإسلاميّة بدلاً من نظامٍ متهالكٍ ينخر عظام مؤسساته الفساد وبحاجةٍ للتأهيل؟
عن نفسي، وكما اكتشف السوريّون إبان هذه الأزمة، بأنّ الوقوف مع الوطن أمر، والوقوف مع الأشخاص أمر مختلف، وبالتأكيد بأنّ لا رغبة لأحدٍ عاقل بتحويل البلاد إلى أفغانستان وأن تصبح حمص وحلب ودير الزور وجبلة قنداهارات متناحرة!.
وعند هذا السؤال تحديداً، سيكون السؤال الأصعب في الحلّ إذن، طالما أن المفروض على كلّ سوريّ أن يصطفّ خلف أحد المُعسكرين أو أحد التصنيفين “المُصطنعين” أيضاً بين “موالٍ” و “مُعارض”.
وأيضاً، عن نفسي وكما أيضاً اكتشف السوريّون بعد كل ما اختبروه أنّ مؤسسة الجيش العربي السوريّ هي الضامن الحقيقيّ لوحدة البلاد بعيداً وعداءً لعصابات يقودها الأفغان والشيشان والتركمان والعربان، وكذلك مروّجوا المخدّرات كأبي فلان، أو أصحاب السوابق المُشينة كأبي علّان!!.
لكنّ فجوةً ما – سبق أن تحدّثنا عنها، واسمها فجوة الاستقرار التي فنّدها الكاتب الأمريكي فرانسيس فوكوياما – أحدثت ما أحدثته كنتيجة، وكمآلٍ وصلت إليه البلاد حاليّاً، وهي – أي الفجوة – أساسات العمل الدؤوب من قبل أعداء الوطن خارجيّاً وداخليّاً على حدٍّ سواء للوصول لهذه النتيجة من الفجوة، وأن يشعر الشعب بأكمله بالغربة ويتطلّع للخلاص عبر زلزال أو بركان أو انفجار يخلّص الجميع!.
فالمكتسبات على الأرض لكلّ الأطراف كانت كبيرة جدّاً، فالنظام المؤسّساتي المُتهالك استفاد من هذه الحفنة المأجورة والتي كانت ضمن مؤسساته وصنيعته، بأن أصبحت في موقف “الُمعارضة”، ولعب المجتمع الدوليّ على هذا التصنيف ليصبح الخائن “مُعارضاً”، ومن يقف ضدّه فهو “موالٍ” و خائن أيضاً!!
وبهذا الشأن بالذات، أصبحت المصطلحات شتيمة، فعندما يعترض أي سوريّ على طريقة إداراة ملفّات البلاد، تخرج الأبواق ضدّه مع التلويح والتهديد والوعيد بإضافة نسبه العائلي للخونة “المُعارضين”.
الأمر ذاته ينطبق على السوريّين خارج البلاد لو أنّهم انتقدوا “زعماء” ما يسمّى بـ “المُعارضة” بأنهم شرذمة من اللصوص الانتهازيّين والعملاء، فيستحضر أبواق المعسكر النقيض مفردات التخوين بوصفهم بـ”الموالين” لنظام الإجرام!.
لقد خسرت كلا المفردتين معناها الحقيقي للأسف، وفاز السيناريو الأمريكي الصهيونيّ فوزاً ساحقاً!!، وبذات الشأن أيضاً، فاز الفساد لأنه استفاد من تأجيل الاصلاحات الواجبة تحت حججٍ واهية!.
استفادت روسيا عبر إنشاء القواعد والمراكز والمطارات عسكريّاً، واستفادت أكثر عبر استثمارات عقود طويلة الأجل للعديد من المرافق والمنشآت الحيويّة في البلاد!
استفادت إيران، على ذات الخطى الروسيّة وبذات الوقت استثمار الأزمة بملفّها النوويّ!.
استفادت تركيا بخطّ أمان طوليّ وعرضيّ جغرافياً على الحدود الشماليّة، واستفادت أكثر عمّا نهبته ووصل إليها على طبقٍ من ذهب من معامل ومصانع سوريّة، وفوق ذلك أصبح حلم “الاتفاق الملّي 1920” قيد التحقيق!.
استفادت أمريكا، وهذا الأمر مفروغ منه، واستفاد الكيان الصهيوني بأن يرى الشعب السوريّ على هذه الحالة!.
وحده الشعب السوريّ من كان خاسراً، ووحده من وقعت على رأسه كلّ المؤامرات والدسائس والحيل، ووحده من بقي في حلبة مصارعة أشبه بحلبات إسبانيا حيث يدخل الثور إلى الحلبة لتنهال عليه سيوف الجلّادين غرزاً في جسده مع تصفيقٍ حادٍ من الجماهير المُحتشدة لهذا الموقف الخالي من الأخلاق والرجولة والإنسانيّة، وهكذا هو العالم، الشعب السوريّ يتلقّى السيوف من كلّ حدبٍ وصوب خارجياً عبر الحصار ونهب الثروات واقتطاع الأراضي وتقسيم البلاد، وداخلياً عبر هياكل الفساد الموزّعة المفروضة منذ ورقة الميلاد وصولاً إلى مكتب دفن الموتى، والعالم كلّ العالم يتفرّج على هذه المأساة سعيداً مناصراً مُطالباً بالمزيد من صرخات السوريّين و دماءهم!.
وعليه، هذه هي النتيجة في الحلبة الآن، لكن ماذا عن الأسباب؟
هل يكفي البكاء على أطلال النتيجة أم أن البحث يجب أن يكون حول الأساسات المُتصدّعة أصلاً لهذا البُنيان؟
لقد وصلنا إلى ما رُسم لنا بالفعل، والأمر لا يتعلق بتاريخ تصريح الوزيرة رايس أو من مثلها، الأمر أقدم بكثير، وهو مكتوب على بساطٍ أحمديّ في بروتوكلات حكماء صهيون، و بألم نشرح يتباهون به!.
وعلى بساطٍ أحمديّ أيضاً، لم تكن حساباتنا أو حسابات السلطات المُتحكّمة بالبلاد بأنّ المواطنة والقانون هي الهدف وهي منعة البلاد وقوّتها وغير ذلك من شعارات تكون بمثابة الهمروجات والثرثرات إن لم يكن الإنسان هو لبنة الأساس لهذا البُنيان..
نحتاج “ثورة” في ذلك الحين؟
هو ما كان واجباً على النظام أن يفعله وينقلب على نفسه معتمداً على الشعب الذي كان يتأمّل ذلك فعلاً!، وفي حال الفراغ، من الطبيعي أن يملأ الفراغ شذّاذ الآفاق ممن لا انتماء لديهم سوى الانتماء للعشيرة والدين والمنطقة على حساب الوطن، فيغدو “جُزافاً” ثائراً!.
نحتاج “ثورةً” في هذه الأيام؟
بالتأكيد، وفي ضوء الأسباب والنتيجة، نحنّ بأشدّ الحاجة إلى ثورةٍ فكريّة منضوية تحت مشروعٍ وطنيّ جامع، دينه وديدنه المواطنة عبر المؤسسات الحقيقيّة والقوانين الحازمة التي لا تنفذ منها كرامة مواطنٍ عبر فقرة أو مادّة!.
ومرّة تلو مرّة نقول للسلطات بأن تعتبر من التاريخ، وأنّ هناك فرق كبير بين “المُعارض” والخائن، وبين المُنتمي للوطن وبين لاعق الاحذية، وبين الدولة وبين المزرعة، وبين القوّة وبين الضعف، وبين الوطنيّة وبين ترديد السخافات والتبجّح بشعارات بعيدة كلّ البُعد عن الواقع، فمن يريد النضال لأي قضيّة، عليه أن يضع كرامة الإنسان ومنعته أساس الانطلاق، وإلّا سيكون الخراب الأكبر كما تحدّث ذات الكاتب الأمريكيّ “فوكوياما” والذي سيكون مُتاحاً بعد فجوة الاستقرار تماماً، وسيخسر حينها الجميع!
الأمل، ليس بتقاربٍ إيرانيّ سعوديّ، ولا تبويس الشوارب بين عربيّ وعربيّ، ولا اعتقال رئيسٍ روسيّ أو انهيار اقصاديّ أمريكيّ، الأمل كلّ الأمل بأن يكون العمل سوريّ سوريّ، وبعيداً عن المصطلحات الخاسرة، فالسوريّ الحقيقيّ من تكون سوريا بالنسبة إليه وطناً وأمّاً وآلهة..
وسلامتك يا وطن ..
إقرأ أيضاً .. “الارتدادات الواجبة” ..
إقرأ أيضاً .. “هِز” الوطن لنشمّه ..
*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب