اقتصادالعناوين الرئيسية

تسعير السلع في الأسواق المحلية اللبنانية بالدولار يفاقم اضطراباتها.. ما القصة؟

يرافق اللبناني غازي الأدهمي زوجته هدى داخل فرع من سلسلة متاجر كبرى، مختبراً لأول مرة تجربة التبضع لمؤونة المنزل الشهرية، بعدما بدأت متاجر السلع والمواد الغذائية التسعير بالدولار بدل الليرة (العملة المحلية) تنفيذاً لقرار أصدرته وزارة الاقتصاد، ودخل حيز التنفيذ منذ مطلع مارس/آذار الجاري.

يعبّر المواطن عن انطباعه من آلية التسعير الجديدة بهز رأسه يائسا، ويقول “إنهم يعملون على دولرة كل السلع والخدمات نتيجة لتدمير الليرة وسيادتنا النقدية، أما نحن فلا فرق عندنا، سواء سعروا بالدولار أو الليرة، وحين نشتري مجموعة صغيرة من حاجاتنا الغذائية الشهرية، فإن سعرها يوازي راتبي الذي كنت أعيش منه سابقاً مع أسرتي مكتفياً ومرفهاً”.

يعد الأدهمي -وهو أستاذ جامعي متقاعد خدم في التعليم أكثر من 3 عقود- نموذج من أرباب الأسر التي شكلت العمود الفقري للطبقة الوسطى، إلى أن أطاحت بهم الأزمة الاقتصادية المالية، وبينما كان راتبه يقدر بنحو 4 آلاف دولار، لا تتجاوز قيمته اليوم مع بعض الحوافز 500 دولار.

يجرّ المواطن عربته، بينما تختار زوجته بعناية حاجات الأسرة بعد التدقيق في النوعية والأسعار، وتردف “أجبرتنا الأزمة على المساومة بجودة البضائع، وأحيانا نقلص الكمية لصالح النوعية، ومع ذلك نخرج بفاتورة ضخمة قياساً لراتبنا”.

وفي جولة على رفوف بعض المتاجر الكبيرة التي يواصل عمالها تغيير ملصقات الأسعار لتصبح بالدولار، قد يظن المرء لوهلة أن الأسعار منخفضة، لأن بعض السلع الصغيرة مسعرة بأقل من 3 دولارات، لكن تحويل الأسعار إلى العملة الوطنية يكشف هول التضخم والأرقام الخيالية.

فمثلاً، من يخرج من المتجر وفي عربته أصناف قليلة من الحبوب والأجبان وبعض اللحوم والمعلبات ومساحيق التنظيف، بقيمة 50 دولار، قد يبدو السعر عادي ومنطقي، لكنه يبلغ بالليرة نحو 4 ملايين، وهي تمثل راتب موظف في القطاع العام.

وفي قسم الحبوب والمعلبات، تقف المواطنة سالي -أم 3 أولاد- تدقق بأسعار الدولار الملصقة، ثم تفتح تطبيق الحاسبة لاحتساب قيمتها بالليرة، تمسك صنف كيلو من الأرز وتقول “حين رأيت أن سعره دولاران وجدته مناسباً، لكنني احتسبت كلفته بالليرة فشعرت بالصدمة، إنه بـ 160 ألف”.

تشكو سالي -وهي زوجة موظف بمؤسسة خاصة- معاناتهم اليومية، وتقول “إن مصروفنا لتوفير الأساسيات وتسديد الفواتير الشهرية باهظ للغاية، ولو أردت شراء مؤونة الشهر بنفس النوعية والكمية كما قبل الأزمة، فسنحتاج نحو 20 مليون ليرة”.

بالمقابل، ما زالت معظم المتاجر الصغيرة بالأحياء السكنية تعتمد على التسعير بالليرة، وتتجه تدريجياً للتسعير بالدولار، بينما يعبر مواطنون عن خشيتهم من تعزيز الغش بالتسعير، خصوصاً أن سعر صرف الدولار يتقلب على مدار الساعة صعوداً وهبوطاً.

ويقول مجد لدى خروجه من متجر صغير في بيروت “لقد احتسبوا فاتورتي على سعر صرف 90 ألف للدولار، بينما هبط بساعات في السوق السوداء إلى 80 ألف”. ويتساءل مستنكراً “من يحمينا من جشع التجار وعمليات النصب بتسعير المواد الغذائية؟”.

وقد تزامن قرار تسعير محال التجزئة بالدولار مع تعميمين لمصرف لبنان المركزي مفاقماً التخبط والاضطراب بالأسواق.

وبعد أن تجاوز الدولار عتبة 90 ألف ليرة، أعلن حاكم المصرف المركزي رياض سلامة أنه سيتدخل بائعاً للدولار النقدي على سعر 70 ألف ليرة ابتداء من 2 مارس/آذار 2023، ورفع بذلك سعر صرف منصة صيرفة من 45 ألفاً إلى 70 ألفاً للدولار، مما يعني رفع استيفاء فواتير الكهرباء والاتصالات وغيرها.

وبينما يصف كثيرون تعاميم المركزي بالمؤقتة وغير المستدامة، رفعت وزارة المالية سعر الدولار الجمركي من 15 ألفا إلى 45 ألف ليرة، أي بمعدل 3 أضعاف، مما يفاقم الضغوط على أسعار البضائع لبلد يستورد أكثر من 90% من حاجاته.

اللبنانيون قلقون من تعزيز الغش بالتسعير خصوصاً أن سعر صرف الدولار يتقلب على مدار الساعة صعوداً وهبوطاً

وبينما تتضافر المسببات الضاغطة على استهلاك الناس بالأسواق، وفي ظل ارتفاع قياسي بمستويات التضخم، سبق أن علل وزير الاقتصاد أمين سلام قرار التسعير بالقول إنه سيتيح للمستهلك الدفع بالدولار أو وفق سعر صرف السوق السوداء.

وحدد الوزير 4 شروط إضافية بعمليات التسعير:

ضرورة وضع ملصقات الأسعار بالدولار على الرف أو على السلعة.

وضع سعر الصرف المُعتمد للدولار على الرفوف وعند صناديق الدفع.

يعتمد سعر الصرف الذي دفع على أساسه لشراء الدولار، على ألا يتعدى السعر الرائج بالسوق وقت الشراء من قبل المستهلك.

تضمين الفاتورة مجموع قيمة المشتريات والضريبة على القيمة المضافة بالليرة، مع تاريخ الشراء وتوقيته وسعر الصرف المعتمد.

ويقول المدير العام لوزارة الاقتصاد محمد أبو حيدر للجريرة نت إن الدولة اتخذت هذا القرار “مرغمة” نتيجة تداعيات تدهور سعر صرف الليرة.

وأضاف “قررنا اعتماد الدولار مرجعاً لتسعير السلعة، ولا يعني ذلك الانتقاص من سيادتنا النقدية، بل إن المواطن قادر على معرفة سعر السلعة الحقيقي بالدولار لنحميه من التلاعب بالليرة” ويؤكد أن السلطات ستواصل فرض الرقابة على عمليات التسعير.

يعتقد خبراء أن لبنان يتجه نحو “الدولرة” الشاملة، على حساب التعامل بعملته المحلية، وتاريخياً، وفيما كان البلد يعتمد بشكل محوري وأساسي على الدولار كرأس مال استثماري ولحفظ المدخرات، وفئة من الودائع المصرفية، إلا أنه منذ انفجار الأزمة خريف 2019، أصبح يحل تباعاً مكان الليرة بالمداولات اليومية النقدية “الكاش” وفي إجراء المعاملات التجارية.

ويعتبر نقيب مستوردي السلع الغذائية، هاني بحصلي، أن نظام تسعير السلع بالدولار له إيجابيات أكثر من السلبيات في الحالة اللبنانية، إذ يحمي المستهلك من التلاعب، كما يحمي رأس مال التجار، إذ يوجد في لبنان نحو 190 فرعاً لمؤسسات “سوبرماركت” كبيرة، ونحو 20 ألف محل تجاري، وما زالت حالة الإرباك بعمليات التسعير مستمرة، متوقعاً توجه الجميع لتسعير السلع بالدولار كخيار لا مفر منه.

من جانبه، يعتبر الأكاديمي والخبير الاقتصادي سامي نادر أن ثمة تأخراً بكل الإجراءات التي تكبح الانهيار، إذ إن نظام الدولرة كان يجب اعتماده لوقف طبع العملة الذي فاقم التضخم على حساب المستهلك ولصالح التجار والمضاربين وشبكات تهريب البضائع بين لبنان وسوريا.

وكل ما فعلته السلطة النقدية والسياسية، وفق نادر، هو سياسات دعم عشوائية ذوبت احتياطي المركزي، الذي كان قبل الأزمة 34 مليار دولار، وأصبح اليوم أقل من 10 مليارات. ومع ذلك، يجد هذا الخبير الاقتصادي أن التسعير بالدولار قد لا يلغي عمليات المضاربة التي تعجز الدولة عن ضبطها “بل كرستها كنظام قائم بذاته لإدارة الاقتصاد”.

ويعتبر نادر أن الأزمة الحقيقية هي برفع سعر الدولار الجمركي إلى 45 ألف، الذي سيفتح باب التهريب على مصراعيه إذا تهرب كثيرون من دفع الرسوم الجمركية تعزيزا لأرباحهم، ويقول إن أكثر المتضررين هم كل اللبنانيين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة، لا سيما أن التضخم والانهيار لم يترافق مع عملية تصحيح جذرية بالمداخيل التي تآكلت قيمتها بأكثر من 70%.

وسبق أن صنف البنك الدولي الأزمة اللبنانية من بين الأسوأ عالمياً، في وقت خسرت الليرة أكثر من 95% من قيمتها.

وهنا، تقول ندى نعمة نائبة رئيس جمعية حماية المستهلك بلبنان إن دراسة مؤشر الاستهلاك، لنحو 145 سلعة أساسية، كشفت أن أسعارها ارتفعت تراكمياً 1500% بالليرة.

وتجد نعمة أن تشريع عملية التسعير بالدولار عشوائي يصب بمصلحة التجار، ويتعارض كقرار مع قوة القانون الذي يفرض التعامل بالعملة الوطنية.

وتقول إن وزارة الاقتصاد لم ترفق قرارها بآلية واضحة لضبط عمليات التسعير وصولاً إلى توحيدها، مما سيعزز الاحتكارات وعمليات المضاربة بهوامش احتساب سعر الصرف، ناهيك عن تشريع شبه رسمي لتداولات الدولار بالسوق السوداء.

وتضيف أن لبنان أمام خطر فعلي يهدد شبكة الأمان الاجتماعية، لأن معدلات التضخم مصادمة وتدفع الناس إلى القعر نتيجة ارتفاع نسبة من يعجزون عن تسديد نفقات ما يحتاجون إليه من سلع وخدمات.

المصدر: الجزيرة

صفحاتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
أهم الأخبار ..
بعد 3 سنوات من اختطافه.. جائزة فولتير تذهب لكاتب عراقي موسكو: الرئيسان الروسي والصيني قررا تحديد الخطوط الاستراتيجية لتعزيز التعاون الجمهوري رون ديسانتيس يعلن ترشحه للرئاسة الأميركية للعام 2024 الأربعاء البيت الأبيض يستبعد اللجوء إلى الدستور لتجاوز أزمة سقف الدين قصف متفرق مع تراجع حدة المعارك في السودان بعد سريان الهدنة محكمة تونسية تسقط دعوى ضدّ طالبين انتقدا الشرطة في أغنية ساخرة موسكو تعترض طائرتين حربيتين أميركيتين فوق البلطيق قرار فرنسي مطلع تموز بشأن قانونية حجز أملاك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بطولة إسبانيا.. ريال سوسييداد يقترب من العودة إلى دوري الأبطال بعد 10 سنوات نحو مئة نائب أوروبي ومشرع أميركي يدعون لسحب تعيين رئيس كوب28 بولندا تشرع في تدريب الطيارين الأوكرانيين على مقاتلات إف-16 ألمانيا تصدر مذكرة توقيف بحق حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة الانتخابات الرئاسية التركية.. سنان أوغان يعلن تأييد أردوغان في الدورة الثانية أوكرانيا: زيلينسكي يؤكد خسارة باخموت ويقول "لم يتبق شيء" الرئيس الأميركي جو بايدن يعلن من اليابان عن حزمة أسلحة أميركية جديدة وذخائر إلى كييف طرفا الصراع في السودان يتفقان على هدنة لأسبوع قابلة للتمديد قائد فاغنر يعلن السيطرة على باخموت وأوكرانيا تؤكد استمرار المعارك اختتام أعمال القمة العربية باعتماد بيان جدة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الجامعة العربية لتمارس دورها التاريخي في مختلف القضايا العربية رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي معتبرين ذلك خطوة هامة نحو تعزيز التعاون العربي المشترك، ونثمن الجهود العربية التي بذلت بهذا الخصوص الرئيس الأسد: أشكر خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد على الدور الكبير الذي قامت به السعودية وجهودها المكثفة التي بذلتها لتعزيز المصالحة في منطقتنا ولنجاح هذه القمة الرئيس الأسد: أتوجه بالشكر العميق لرؤساء الوفود الذين رحبوا بوجودنا في القمة وعودة سورية إلى الجامعة العربية الرئيس الأسد: العناوين كثيرة لا تتسع لها كلمات ولا تكفيها قمم، لا تبدأ عند جرائم الكيان الصهيوني المنبوذ عربياً ضد الشعب الفلسطيني المقاوم ولا تنتهي عند الخطر العثماني ولا تنفصل عن تحدي التنمية كأولوية قصوى لمجتمعاتنا النامية، هنا يأتي دور الجامعة العربية لمناقشة القضايا المختلفة ومعالجتها شرط تطوير منظومة عملها الرئيس الأسد: علينا أن نبحث عن العناوين الكبرى التي تهدد مستقبلنا وتنتج أزماتنا كي لا نغرق ونغرق الأجيال القادمة بمعالجة النتائج لا الأسباب الرئيس الأسد: من أين يبدأ المرء حديثه والأخطار لم تعد محدقة بل محققة، يبدأ من الأمل الدافع للإنجاز والعمل السيد الرئيس بشار الأسد يلقي كلمة سورية في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة الرئيس سعيد: نحمد الله على عودة الجمهورية العربية السورية إلى جامعة الدول العربية بعد أن تم إحباط المؤامرات التي تهدف إلى تقسيمها وتفتيتها الرئيس التونسي قيس سعيد: أشقاؤنا في فلسطين يقدمون كل يوم جحافل الشهداء والجرحى للتحرر من نير الاحتلال الصهيوني البغيض، فضلاً عن آلاف اللاجئين الذين لا يزالون يعيشون في المخيمات، وآن للإنسانية جمعاء أن تضع حداً لهذه المظلمة الرئيس الغزواني: أشيد بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي آملاً لها أن تستعيد دورها المحوري والتاريخي في تعزيز العمل العربي المشترك، كما أرحب بأخي صاحب الفخامة الرئيس بشار الأسد الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني: ما يشهده العالم من أزمات ومتغيرات يؤكد الحاجة الماسة إلى رص الصفوف وتجاوز الخلافات وتقوية العمل العربي المشترك