تربيع التطبيع: القدس ومعلولا مثالاً .. بشار جرار الأراضي المقدسة-واشنطن ..

تربيع التطبيع: القدس ومعلولا مثالاً ..
استأذنت مضيفي الأخ الأستاذ طارق بإرجاء مقالتي الأسبوعية لحين اكتمال ثالث زيارة أكرمني بها الله إلى الأراضي المقدسة غرب نهر الأردن حيث معمودية يسوع الناصري، وجنوب غرب “الطريق إلى دمشق” حيث واجه مضطهده ومضطهد المسيحيين الأوائل، شاؤول الذي صار من بعد فتح عينيه وارتداد بصره إليه، بولص الرسول..
كنت خلال الزيارة التي جلت فيها والوفد (الأردني، والأردني الأمريكي) على عدد من المواقع المقدسة من بحر الجليل- بحيرة طبريا شمالا وحتى أريحا جنوباً مروراً بالناصرة والقدس وبيت لحم وبيت ساحور ودالية الكرمل وحيفا، كنت مأخوذاً بالمكان وأهله الطيبين وزواره من شتى بقاع المعمورة، مأخوذاً إلى حد الانعزال المكاني والزماني عن أي شيء باستثناء اتصالين يومياً مع أسرتي في أمريكا والأردن.
ولعدم توفر الانترنت في كثير من الأماكن التي شرفت بزيارتها، وتعلمي درساً قاسياً في كلفة خدمة التجوال (رومينغ) عالمياً، عشت -ولأول مرة في حياتي المهنية منذ ما يزيد على ثلاثة عقود- نعمة الانقطاع عن الطوفان الإعلامي الذي صار في أيامنا وبفضل (السوشال ميديا)، تسونامي..
في نهاية كل يوم وخلال عملية جرد للرسائل النصية والصوتية، سمعت لهفة السائلين وقلقهم وحزنهم جراء القصف المتبادل بين تنظيم الجهاد الإسلامي فرع غزة وبين إسرائيل. رحم الله الشهداء وكل نفس بريئة دمها على يدي من سفك دماء من لم يستشرهم أحد بقرار الحرب والسلام وما هو أكثر إيلاماً من الحرب، حالة الاستنزاف والوقوع تحت رحمة من يظنون أنفسهم آلهة الحرب والسلام في هذا العالم (الساقط) روحياً في معظمه.
كنا في صلواتنا الخاصة قد نسينا السياسة حتى أفاقتنا القنابل والصواريخ من الصلوات الحارة والخاصة جداً، كعائلة (حجّاج) كان بيننا من دعا للم شمل، عودة غائب، تحرير مخطوف أو أسير، شفاء من مرض أو ألم أو شجن، أو مجرد سداد دين! جميعنا أحسسنا ولو لبضعة أيام، أن أورشليم، القدس، جيروساليم هي مركز العالم شاء من شاء وأبى من أبى، تلاشت بيننا الفوارق والحدود تماماً كما تلاشت بين مضيفينا على اختلاف مواقعهم.
محال القدس العتيقة بمربعاتها الإسلامية والمسيحية واليهودية تبيع الزاد والزوادة بثلاث عملات: الدينار الأردني والدولار الأمريكي والشيكل الإسرائيلي، وبصرف النظر عن جنسية وديانة وطوائف أصحاب المحال، باعونا رموزاً لا تجتمع الا في واجهات العرض (الفترينات).. يعني باللهجة العامية (اللي طبّع طبّع واللي ربّع ربّع) وهي مقولة تقال لمن تجاوز في جدله وسجاله الحدود إلى السفسطة. طبعاً لا مجال للمقارنة بين ما يقال في سياسة التطبيع وحقائق الحياة المعيشية التي تفرض على الجميع ما هو أقوى وأبقى من السياسة الدائبة الحركة والتغيّر بالضرورة.
في دالية الكرمل وفي حيفا زرنا مطعماً للدروز وحدائق البهائيين فزاد على ما أردت قوله حجم الظلم الذي يقترفه بعض أشقائنا في الوطن بحق شريكه بالوطن، القضية ليست القضية المركزية وحدها (فلسطين) فالظلم ظلمات وقد عمّت الجميع – “من المحيط إلى الخليج”- وخاصة من يصفونهم زوراً وعدواناً بالأقليات، وما هم في حقيقة الأمر إلا بقايا شهداء أبوا الموت أو الرحيل..
من على هذا المنبر السوري الباريسي المتنور -الخط الوسط، أصلي من أجل رفع القيود بداية عن مقدساتنا، أرفعوا أيديهم وكفوا أيديهم عما يجمعنا روحياً، ليكن في متناول الجميع زيارة أي موقع ديني في العالم، ولا علاقة بالأمر بما يثار حول التطبيع وسواه من السياسات فلتلك الأمور ميادينها وأدواتها، حتى ضمن الوفد الواحد ثمة بركات وتسهيلات تمكن البعض من الحصول عليها فقط بفضل “باسبورت” أو بالأحرى جوازي السفر اللذين بحوزتهما..
أسأل الله قبل زيارتي الرابعة المقبلة إلى الأراضي المقدسة العام المقبل، أن أتمكن من زيارة معلولا تلك البلدة السورية التي ما زالت تنطق بلسان يسوع الناصري. وما ذلك على الله ببعيد..
*كاتب ومحلل سياسي – مدرب مع برنامج الدبلوماسية العامة في الخارجية الأميركية ..
المقال يعبر عن رأي الكاتب ..
عنوان الكاتب على basharjarrar : Twitter