العناوين الرئيسيةالوسط الثقافي
الناقد حنا عبود : شغفي الثقافي أبعدني عن الشعر.. وأراه الآن أشدّ تمرداً واستياءً من الواقع
الأدب عزاء للتغلب على المآسي وثمة شروط يفترض توفرها في الناقد

الناقد حنا عبود: شغفي الثقافي أبعدني عن الشعر.. وأراه الآن أشدّ تمرداً واستياءً من الواقع
في طريقي إلى قرية “القلاطية” في ريف حمص الغربي للقاء الناقد الأدبي حنا عبود، راحت الأسئلة تتزاحم في ذهني، وانتابني بعض القلق! ربما يكون مصدره أنني سأقابل قامة أدبية كبيرة تشهد لها الساحة الثقافية السورية بغزارة الإنتاج سواء في النقد أو الترجمة, لكن ومع وصولي إلى منزله تبدد القلق بفضل حرارة الترحيب وطيب الملقى المعهود. فكان اللقاء غنياً, واكتشفت أنه وللإحاطة بكل ما يخطر في بالي وبال القارئ أحتاج إلى أكثر من لقاء, فثمة أسئلة تفتح الباب لأسئلة أخرى, والجواب يوجه الحديث إلى اتجاه آخر، كأننا أمام نبع كلما شربنا من مياهه طلبنا المزيد لأننا نحس أننا لم ولن نرتوي.
حوار: سهيلة إسماعيل
.

“اللاقطان الشعري والمعرفي”
كتبت الشعر في مرحلة مبكرة. فلماذا لم تستمر في كتابته واخترت النقد؟
- تجربتي ليست الوحيدة من نوعها, لكن عمق الثقافة واتساع المعلومات لم يكن في الاتجاه الشعري. وعندما تتوسع المعلومات ويتوفر ما يسمى اللاقط الشعري نتعمق في الشعر, أما اللاقط المعرفي المتنوع فإنه يلتهم المقدرة الشعرية ببطء وأحيانا بسرعة, وبالنسبة لي فإن شغف الثقافة قضى على هواية الشعر. ومن يقرأ سبينوزا وديكارت وهيغل يجد الشعر أمرا تافهاً, والسبب هو أن الشعر يكاد ينحصر في الذات بينما الفلسفة والعلوم والفنون تحوم في حقل أوسع بكثير , واكتشفت أنني سأكون مقصرا في الشعر إذا عاندت واستمريتُ.
الناقد حنا عبود
قلت في حوار سابق: “مستنقعات البشر أفض مولِّد للأدب”, هل ما زال القول صحيحا, وبرأيك ألا تلعب الحروب والتحولات العالمية على كافة المستويات دورا في تحفيز الأديب؟
- الحروب أيضا مستنقعات, فالمستنقع عبارة عن ماء وقذارة , والحرب سواء كان فيها ظالما ومظلوما , أو ظالما وظالما , أو مظلوما ومظلوما , فهي تشويش للوجود الإنساني . ونحن نعيش الحياة الهانئة والجميلة ولا نكتب عنها, وليس من الضروري أن تعاش الظروف الصعبة بل يستوحي الأديب من المراقبة. فالشاعر أحمد شوقي لم يكن يعاني من شيء , ومع ذلك فهو أفضل منْ كتب عن الحب.

“الشعر ملك الملوك”
هل مهمة الشاعر والشعر تغيير الواقع أم تجميله, لا سيما وأنك قلت في كتاب” القصيدة والجسد”: الشعر ملك الملوك, هو القصد لأنه هو الأساس وهو المنشأ لكل الفروع والأنواع الأخرى, وخلاص البشرية يكمن في الحس الجمالي أي في الشعر والأدب؟
- هناك إجماع لا مثيل له بأن النثر تأخر ملايين السنين عن الشعر. فعندما اتسعت مجالات العلم صارت تقضم الغيبيات وتحولها إلى ماديات. فالكرة الزجاجية – على سبيل المثال – هي عبارة عن قراءة في الغيب وكانت منبعا للشعر, وحين صارت بين أيدينا على شكل شاشة تلفاز أو كمبيوتر أو هاتف نقال اختفى الوحي لأن معظم الغيبيات قد تجسد فهربت الدهشة, وتراجع الشعر والفلسفة لصالح العلم. إن مهمة الشاعر إحداث الغرابة وتحويل المعروف إلى مجهول والعادي إلى شيء عجائبي. والآن لم يعد الموجود الشعري هو المسيطر. تفوقت الرواية وهنا ندخل في نظرية هيغل التي تزعم أن الشعر سيزول ؛ والسبب هو التطابق بين العقل المطلق والواقع الملموس. لكنَّ هيغل فاته أن اللغة تصنع الأعاجيب , ومن امتلك اللغة امتلك كونَها, واللغة الفنية هي كون غني , وعاد هيغل ليستدرك قائلا:” إن المرحلة الرومانسية في الأدب هي التي ستبقى, لكنَّ الشعر بمقاييسه الحالية سيزول ويحل محله النثر الفني”.
الناقد حنا عبود
لنتوقف لدى العلاقة بين الجانبين السياسي والجمالي، لا سيما وأنك ألفت كتاب بعنوان “فصول في علم الاقتصاد الأدبي”؟
- يقوم الاقتصاد السياسي على مصلحة شخصية أو فئوية أو حزبية , وأحيانا يكون تحت سلطة قوية في بطشها, هزيلة في إدارتها , فتقع الكارثة .أما الأدبي فهو يقوم على ثلاثة أركان: الحق, الخير, الجمال, وشتان ما بين الجانبين. فمثلا عندما نريد بناء جسر فإذا كان لمصلحة يصبح هزيلا, أما إذا كان للحق والخير والجمال فسيكون قوياً ومتعة للناظرين, فيه ترتقي المشاعر والعواطف , وقد يتحول إلى معلم جمالي يزوره الناس لتخفيف أعباء الحياة عن كاهلهم.
.

“شروط الناقد الأدبي”
ألا يفترض أن تتوفر لدى الناقد مقومات وشروط تجعل منه “ناقداً جيداً”؟
- أول وأهم شرط هو النقد الذاتي , أي عندما أطرح مقولة , وإن كنت مؤمنا بها , أعود وأطرح ما يقابلها من الأطروحات المناقضة ولا أسلم بها إلا بعد الاختبار , والشرط الثاني هو احترام أفكار الآخرين والأطروحات الفكرية الأخرى ومناقشتها مناقشة المنفعة لصالح الجميع وليس لصالح أفكاري أنا. أما الشيء الثالث فهو القدرة على الابتكار حتى لا يقع الحافر على الحافر فأكرر مقولات قديمة بأساليب جديدة مما لا يفيد القارىء , والشرط الرابع أن يكون هدف التفكير تجميل الحياة , بالحث على الرائع والحَسَن والتنفير من الضار والفاسد والمفسد. فالأدب عزاء للتغلب على المآسي. والجمال يُصنع أما الاعتياد فيفسد الحياة . قال إيليا أبو ماضي ” كن جميلا ترَ الوجود جميلا” , فالاعتياد مقبول في الأشياء المشتركة ولا يمكن الاعتياد على القباحة مثلا. لم يكن بايرون يسمح للمرأة أن تأكل أمامه لأن جمالها يذهب عند رؤيتها وهي تمضغ الطعام.
الناقد حنا عبود
وصِفت أعمالك بالموسوعية، فهل يمكن أن تفسر لنا هذه الصفة؟
- أتتني الموسوعية تسللا, ولم أبحث عنها أو أقصد الذهاب إليها ؛ لأنها ستكون مفتعلة إن قصدتها, فكنت إذا قرأت عن شيء أجهله أسعى بكل طاقتي للإمساك بهذا المجهول وجعله ملك يميني لأنني لا أعرف متى أحتاج إليه في عملي النقدي.
– لماذا تعتبر النقد الإيديولوجي من أخطر أنواع النقد وأشقّه؟
- عندما تكون الإيديولوجيا نبراس هداية يكون النقد بخير , ولكن عندما تتحول إلى دين يرفض أفكار الآخرين تصبح زنزانة للعبادة المتقوقعة. فالتعصب الحزبي مثله مثل التعصب الديني الطائفي. في أوروبا وبعد أن تخلصوا من العصبية الدينية فتحوا أبوابهم لكل الديانات , فالتعصب والإنسانية لا يلتقيان أبداً. لأن العقيدة عمودية بينما الإنسانية أفقية. ولا تقوم الدولة أو تكون بجلد الذات بل بالفرح, والفرح حياة. ألا ما أوسع باب الخطيئة وما أضيق باب الفضيلة.
.

“الشعر في سوريا”
قلت سابقا: “الشعر السوري لا يرنو إلى الانعتاق البشري الكلي بصورته الفلسفية وعندما يهفو المرء إلى التحرر من أبسط أنواع القسر فإنه لا بد أن يكون متمرداً ضَجِراً. ومن ثم لن يأخذ الوعي الجمالي أبعاده ” فهل ما زال رأيك اليوم نفسه؟
- بات الشعر السوري في هذه الأيام الشعر الأشد تمرداً والأشد استياءً من الواقع. لكنني أخشى أن تكون شدة الانفعالات على حساب فنية الشعر وحسن التأتي للموضوع الشعري فمتوفذ الأعصاب لا ينتج شعراً , لأن الشعر بحاجة لما نسميه هدوء التأمل . وقد انتشر نوعان من الشعر هما : التامزدات وهو الشعر المكتوب بخط اليد ويُنشر في الخارج , والسامزدات وهو لا يُنشر بل يتم تداوله بين الناس سراً , وهما ولدا ولادة قيصرية نتيجة الكارثة المفاجئة , وليس تطورا طبيعيا لولادة طبيعية. وهذا خطر لأنه في معظمه يكون خارج الإطار الفني. ويقترب مما يسمى اللغة الغوغائية. المعارضة في الأدب يجب أن تكون موجودة لأنها تطلع إلى الجمال, ومن المستحيل أن يخلو بلد من المعارضة الأدبية , والدليل على ذلك تلك المعركة التي حدثت بين الأجناد السماوية ” الملائكة الذين لا يؤيدون الحكم المطلق للاهوت وبين المؤيدين.
الناقد حنا عبود
يتهمك البعض بالاجتهاد في تفسير التاريخ عند قراءتك له مع الأخذ بعين الاعتبار أن التاريخ يصنعه المنتصرون, فهل هذا صحيح؟
- نعم, أنا أجتهد في قراءة التاريخ لأنه من صنع المنتصرين. فأنا أجتهد بحثا عن الجانب الآخر فقد يكون حقيقة وقد لا يكون . نيرون لم يحرق روما , على عكس ما يعرفه غالبية الناس وكان في اليونان يشارك في الألعاب الأولمبية . عند عودنه أخبروه بحريقها فعرف على الفور أن الأغنياء من التجار والسماسرة أقدموا على حرق الساحة العامة لأنها لم تعد تتناسب مع جشعهم الاقتصادي. فبادر إلى حرق بيوتهم وحاراتهم انتقاما مما فعلوه, وبقي المسيحيون يزورون ضريح نيرون ويضعون الورود عليه مئات السنين.
.

“الترجمة والأسطورة”
كيف أثرت الترجمة على نتاجك الفكري والمعرفي؟
- أقرأ الكتاب الأجنبي فإن كنت على معرفة بما احتواه لا أترجمه . فأنا أترجم ما أجهل , ومن هنا جاءتني تهمة الموسوعية , وقد ترجمت الكوميديا الإلهية عن اللغة الإنكليزية وبعد الاطلاع على النسخة الإيطالية تسللت إلى ذهني فكرة أن اللغة العامية هي أساس اللغات , ففي العربية نقول “ملاّ رجل” ؛ أي من أين له هذا الرجل كل هذا الجمال أو الطيبة أو ….. وحجة محاربي العامية أنها لا تُحرَّك.
عرف عنك قراءتك العميقة للأساطير وقد ألفت كتاب “موسوعة أساطير العالم” ألا تتشابه الأساطير في كل دول العالم؟
- يتألف الكون الأدبي من ثلاثة عوالم: السماوي والأرضي والسفلي؛ أما الأرضي فهو معروف للإنسان , أما السماوي والسفلي فهما مجال الأسطورة , حيث يلتقي أبطال العالميْن على الأرض في صراع مرير . وهذا هو الأمر المشترك بين كافة شعوب البشرية , ومن هنا أتى التشابه بين جميع الأساطير.
الناقد حنا عبود
لا ينجو أعظم الكتاب من فكرة التناص الأدبي, فما رأيك به؟
- التناص الأدبي يعتمد على ثقافة الشخص الذي يلجأ إليه فإن كان مبدعاً استغله فنياً وأبدع فيه, وإن كان ضحلاً وقع في مستنقعه وتلقى الاتهامات , والمثال على ذلك قصة فاوست الشعبية, حيث كتبها الكثيرون وهي موجودة في كتب التراث القديم لدى معظم الشعوب . ولكن قلة قليلة من الكتاب أبدعوا فيها وأدهشوا, فالجديد هو الإبداع في القديم , والمقدرة هي أساس الإبداع . نستطيع القول أن التناص سيف ذو حدين.
-لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews