المواجهة الأطلسية الروسية .. هل تنتهي بزوال الاتحاد الأوروبي؟.

لم تكن الأخبار الكثيفة التي تم تداولها في بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا مطلع العام الماضي حول “وصول القوات الروسية إلى مشارف كييف” خلال أول يومين من بدء المعارك، إلا سياقاً مدروساً للبروبكندا الإعلامية الغربية، وهذا تقليد بريطاني متبع منذ قرون في الإعلام السياسي وحتى الإعلام العادي الذي يوظف لخدمة السياسة على كل حال.
الفكرة هي بالمختصر “تضخيم الخصم” وذلك يحقق جملة من الأهداف التكتيكية والاستراتيجية، وبصراحة يبدو ذكياً كفاية ليحصل على التقدير. فليس ثمة سذاجة أكثر من سياسة “تسخيف وتحقير العدو أو الخصم” المنتشرة في إعلام وسياسة الكثير من الدول، ومنها طبعاً وبموضوعية، إعلامنا بجيش المفكرين السياسيين الذين دأبوا على تسهيل المهمة نظرياً وشتيمة العدو والتقليل من قيمة ذكائه ومعارفه، فيقال “العدو لا يعرف، وفاشل، وغبي..الخ” فما الذي يعنيه ذلك!! إنه تعريض الشارع الذي ندافع عنه للصدمة المركبة والمضاعفة، وتسخيف قوتنا نحن ومقدرتنا على الثبات في مواجهة عدو قوي جداً، عندما نصوره كعدو “غبي وضعيف”.. ثم كيف يستطيع هذا العدو الغبي تكبيدنا كل تلك الخسارات وتعريضنا لكل تلك الإنقسامات والتراجعات المعنوية!! كان من الحكمة إعطاء العدو حقه من التقدير لقوته ومقدراته وحسن تخطيطه، لأن ذلك سيعني بالضرورة تقدير أكبر لمقدرتنا نحن على المواجهة والتحمل، كما أنه سيهيئ الرأي العام لتحمل المآسي التي ستحملها الحرب مثلاً، وقد حملتها بالفعل. إنها مسألة علم نفسية بالدرجة الأولى يحسن البريطانيون في استخدامها دائماً، ناهيكم عن المضمون الخبيث أيضا الذي ينضوي فيها، فالمعسكر الغربي كان يهدف من خلال تلك البروبكندا لتضخيم المقدرات الروسية إلى:
– تهيئة الرأي العام الغربي للخسارات التي سيتعرض لها الغرب من جراء المواجهة.
– تعريض الرأي العام الشرقي للخيبة نتيجة عدم حدوث هذا “التوقع” ما يعني فشل القوات الروسية في تحقيق أهدافها، مما يعني ضعفها.
– الأهم من هذا وذاك هو بتصوري نصب ذلك الفخ للجيش وللقيادة الروسيين عبر دفعهم للانقضاض على كييف وتصوير ذلك كأنه خطوة متوقعة ومقبولة من المجتمع الغربي أو “الدولي”.
هذا كان سيغير مسيرة العملية ويحرفها عن أهم أهدافها التي كنت كتبت عنها مقالاً موسعاً بداية المواجهة خالفت فيه كل التوقعات السائدة تحت عنوان “العملية العسكرية رأس جبل الجليد” خلصت فيه لنصيحة ورأي بأن هذه العملية يجب أن تطول، حيث ختمت المقال بالجملة التالية:
“برغم ما في هذا الكلام من إرباك على المستوى الإنساني في ظاهره، فإني أعتقد بأن ضمان إحداث التحولات العميقة في الاقتصاد والسياسة الدوليين، من أجل ولادة جيدة لعالم جديد، هذه الحرب يجب أن تطول”.
هذا يفسر تلك الرغبة الغربية في دفع روسيا خلافاً لذلك لخوض حرب سريعة، فالغرب نفسه تحمل تبعات خلاف ذلك من حرب طويلة محكمة التخطيط والتهيئة تحمل في مضامين تبعاتها تآكل الاقتصاد الغربي وتفكك العلاقات المصلحية التي تجمع دوله وأركانه، إضافة لترسيخ قواعد جديدة في اللعبة السياسية الدولية أو “النظام الدولي”، بما فيها الاقتصاد بمستوياته المختلفة من الطاقة وحركتها والتنمية وعلاقات التبادل التجاري والنظام المالي العالمي، وكل تلك المفردات كانت على مدى 70 عاما مفروضة من قبل الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
من الواضح اليوم أن روسيا حققت تمدداً كبيراً وسريعاً على المساحة الجيوسياسية العالمية وفق خطة معدة مسبقاً، فقد اتضح من خلال المواجهة المستعرة أن روسيا كانت تدرك تماماً إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية قبل بدء المواجهة العلنية، وأنها عملت بشكل منهجي على توظيف تلك الإمكانات بشكل يضعها في مكان يصعب فيه الاستغناء عنها، كما أن فرص التنمية الواعدة والكبيرة في دول آسيا التي ستحتاج وستقدم على المزيد من التشبيك والتبادل التجاري وخاصة في مجال الغذاء والطاقة التي تحتاجها تماماً كما ستحتاج روسيا للمزيد من التسويق لانتاجها العالمي الضخم إثر العقوبات والمقاطعة التي كان متوقعاً أن يواجهها الغرب فيها، وقد أعطى كل ذلك أُكله فبدت أغلب دول العالم على استعداد بل ورغبة في السير بشكل إيجابي ضمن المخطط الروسي، أو موارب على الأقل تجاه سيطرة وسطوة الولايات المتحدة بالمقابل، هذا كله بدأ يدفع القارة الأوروبية تحديداً للمزيد من التآكل والضعف والعجز، فهي الأقل موارداً بمقاييس عالم اليوم، والأكثر استهلاكاً أيضاً، وكان من الطبيعي أن تبدأ الوفرة التي امتلكتها هذه الدول المشكلة لمنظومة الغرب أو “حلف شمال الأطلسي” بالزوال بصورة درامية متسارعة، فهي كانت وبغض النظر عن تشكلها السابق بناء على حقبة الاستعمار التقليدي، تعيش بقيتها بناء على السطوة العالمية الناتجة عن نجاح الغزو الفكري للعالم، الذي كان معتقداً بصورة كبيرة بأنها (أوروبا) هي الخيار الوحيد المتاح، وتالياً كانت قادرة على فرض شروطها الاستثمارية والتجارية على دول الشرق والجنوب لأن هذه الأخيرة مقتنعة بذلك. أما اليوم وبعد اهتزاز تلك الصورة بشكل عميق، فلقد باتت التصورات البديلة متاحة وأكثر قبولاً وربما رغبة لدى الكثير من الدول والشعوب التي بدأت تتلمس طريقها للرهان على المستقبل وعدم الاكتفاء بالاستسلام للماضي.. أوراسيا وليس أوروبا، روسيا والصين والهند ومجمل منظومتي بريكس وشنغهاي الصاعدة وليس المعسكر الغربي المترنح.
نعم إن التمدد الذي حققته روسيا ومعها حلفاؤها على الساحة الدولية كان لا بد أن يُحسم من طرفٍ ما من المجتمع الدولي، والذي بات واضحاً أنه أوروبا، حيث تقف الولايات المتحدة موقف المتفرج لا بل المستفيد من كل ذلك، فهي تستثمر في هذا الضعف وتفرض المزيد من القيود وإجراءات الاستغلال على حلفائها الغربيين، وهي المحمية جغرافياً بكل ما في الجغرافيا السياسية من عناوين الاقتصاد والموارد الغنية والمسافات والمحيطات العازلة، إضافة لفائض القوة والمأسسة والتغلغل في مؤسسات ودول العالم. وكأن الولايات المتحدة تبحث لها عن مخارج جديدة لشكل النظام الدولي الجديد محاولة الاكتفاء بوجودها القوي كأبرز وأقوى قوة فيه، مضحيةً بشركائها الغربيين، متسلحةً بعدم رغبة المعسكر الشرقي أساساً بأكثر من هزيمة أوروبية تعطي الشرق مساحة أكبر دون تدمير النظام والاقتصاد الدوليين، في رؤية واقعية منهجية تشكل قاعدة لنظام دولي جديد سيستمر في المستقبل القريب والمتوسط حاملاً محاور جديدة للصراعات والحروب الباردة.
هذا سيعطي النظام الدولي شكلاً جديداً تستعيض فيه الولايات المتحدة عن شريكها الكبير “الاتحاد الأوروبي” بشركاء آخرين بعضهم سيكون من أفراد هذا الاتحاد السابقين والحاليين كبريطانيا وألمانيا، وهذا أفضل ما يمكن الحصول عليه دخولاً إلى ميدان جديد من الصراع الدولي مع الشرق وفق قواعد جديدة متغيرة وأكثر صعوبة على كل حال.
إقرأ أيضاً .. بعقل بارد .. من سوريا إلى أوكرانيا ..
إقرأ أيضاً .. “المجتمع المدني” .. النشأة، الغاية والوسيلة، والدور المرتجى ..
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب
صفحتنا على فيس بوك – قناة التيليغرام – تويتر twitter