ثلاثة آلاف عام من الحقد .. غسان أديب المعلم ..

” تمّت العملية بنجاح، فليفرح نبوخذ نصر في قبره” .. هذا ما قاله الطيار الإسرائيلي أثناء طريق عودته من العراق إلى الكيان الصهيونيّ عبر الحدّ الفاصل بين حدود سوريا والأردن، بعد أن قصف الطيّار الإسرائيليّ مفاعل “تمّوز” النوويّ في العراق في أوائل الثمانينات في القرن الماضي، بدوره أبلغ قائد القوى الجويّة وزير الدفاع بذات الجملة، وعلى ذات النحو من استشفاء الغليل والحقد.
وهذا الحقد ليس بغريب، ولو أنّ مدّته ثلاثة آلاف عام، ولم ولن ينسى الصهاينة قصّة السبي الأول المذكورة في التلمود، بل إنّ عدوّهم وهاجسهم الأكبر هو “سوراقيا”.
لم يكن العداء لمسمّيات العرب والإسلام إلّا العداء الظاهريّ، لكنّ الذعر من سوراقيا وكلّ مؤمنٍ بقيامتها كان آخر نقطة في صفحات العداء والبغض، وخصوصاً أن صفحات التاريخ هدّدت لأكثر من مرّة، بأنّ هناك قوّة في الشرق لو أنّها قامت، لغيّرت وجه التاريخ، فشتّان بين من يعتبر فلسطين أرضاً جنوبيّة من سوراقيا، وبين من يميّع القضيّة بعروبتها وإسلاميّتها، فالقضيّة سوريّة بحتة، وهنا مكمن العداء.
وبعد، فإنّ ماجرى ويجري في العراق كان له أسباب كثيرة، منها السابقة وصولاً للآنيّة، وأكثر ما يجب التذكير به، هو الأسباب التي أدّت إلى النتائج، وكنّا قد ذكرنا سابقاً عن مرحلة “فجوة الاستقرار” الموجودة ضمن نظرية الفوضى الخلّاقة التي أشار لها “صمويل هنغنتون”.
هنا كانت البداية الفعليّة على الأرض، باستثمار إتفاقيّة النفط مقابل الغذاء، والتي بدورها قضت على مليون طفل عراقي بسبب الجوع، وحفرت قلوب العراقيّين من الفقر، وكانت نتائجها على الأرض خلال سنوات أنّ الظروف أصبحت مرتعاً لتجنيد العملاء في الداخل العراقيّ أو الخارج.
وكانت التهيئة للإحتلال الأمريكي بنوعيه، الاحتلال العسكريّ المباشر عبر قوّة عسكريّة، ويليه الاحتلال المخفيّ عبر وصول أذرع أمريكيّة إلى مفاصل الحُكم والقرار في البلاد، وهذا ما كان بالفعل، وتمّ رسم دستور بريمر على مقاس الطوائف والعمامات العميلة أو المُصطنعة، ودخلت البلاد بمرحلة الحرب الأهليّة على الهويّة رغم هياكل الدولة المزعومة، وكانت النتيجة الحاضرة بأن العراق بأكمله على شفير الهاوية عندما ترغب أمريكا بإلقائه.
وهنا يكون الأمر الثاني المُكمّل لنظريّة الفوضى الخلّاقة، أو ربّما بالتوازي معها، عبر خلق أو استبدال الشعب العراقيّ المؤمن بسوراقيا إلى شعب مدجّن لا قضيّة له سوى رغيف الخبز مع توجيه الشكر لحامي الحمى أمريكا، وهذا ما تحدّث به وأضافه المفكّر الأمريكي فرانسيس فوكوياما على نظرية الفوضى في كتاب نهاية العالم.
ونحن هنا إذ نذكّر بعدّة أمور ولأجل العديد:
- مفاعل تمّوز العراقيّ، يُقابله مفاعل الكُبر السوري ..
- الأسلحة الكيميائيّة العراقيّة التي تمّ تسليمها، هي ذاتها ماتمّ تسليمه في سوريا ..
- الانفصال الكُرديّ في شمال العراق، له مايوازيه في الشمال السوريّ رغم أنّ السوريّين الأكراد الشرفاء لا رغبةً لهم بذلك ..
- حصار أو اتفاقية النفط مقابل الغذاء، لها ما يتوافق معها بغير اسم، وهو حصار قيصر ..
- ويمكن أن نقول بأنّ مدّة التقنين في العراق اليوم، هي ذاتها في سوريا، أي عشرين ساعة ..
- ما مرّ به العراق من فجوة الاستقرار، نحن نمكث به بجدارة واستحقاق رغم أنّ الغالبيّة لا تريد ذلك!
هذا التذكير من باب محبّتنا وحزننا على توأمنا العراق، ومن باب غيرتنا على سوريانا، ولأننا لا نريد عراقاً آخر، ولأنّنا نرغب بتجاوز مرحلة فجوة الاستقرار والبناء من جديد، ولو على مبدأ أقلّ الخسائر، أو كما يقول المثل الشعبيّ: “الكُحل أشوى من العمى”، فالمخطط واحد كرمى ذلك الحقد والكراهية المُزمن.
الكيان الصهيونيّ والصهاينة لا يخفون هذا الأمر حتى في بروتوكولاتهم، بأنّ المراد لسوريا أن تكون مقسّمةً إلى خمس دويلات طائفيّة، لكلّ دويلة علم ومذهب، وتستقوي على بعضها البعض بإسرائيل، يريدون ذات الفوضى وأن يقتل السوريّ أخيه السوريّ.
لذلك .. نطالب ونرفع صوتنا عالياً بضرورة تجاوز المرحلة عبر حوار حقيقيّ ومشروعٍ وطنيّ جامع، فهكذا أوضاع ستكون مرتعاً للعمالة والخيانة عند البعض القليل، لكنّها ستؤثّر حتماً، ودستور بريمر أو مايشابهه مطروحٌ في جنيف أمام الوفود المتفاوضة لأجل دستورٍ جديد، ويكفي منها استدامة عدم الثقة بكلّ شيء وفقدان الأمل ليحلّ الخراب.
لا نُريد عراقاً آخر، ولا نريد حُزناً يفتك ببلادنا ويهشّم أفئدتنا ونحن ننظر ونُنظّر وننتظر دون جدوى ..
وكما قال النوّاب السوراقيّ العظيم: “مو حزن لكن حزين” .. لقد أدرك السوراقيّ الكبير حال الخراب المرتقب، وما أكثر العبرات وما أقل الاستعبار، فهل نعتبر؟
برداً وسلاماً ياعراق، برداً وسلاماً سوراقيا الكبرى ..
*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب