التنمية البشرية في سوريا بعد الحرب .. يزيد جرجوس ..

إذا كانت التنمية البشرية قد بدأت كمفهوم يعنى ويركز على مؤشرات النهوض بالإمكانات والمهارات لدى المجتمع، فإنها انتقلت بصورة مستمرة وطبيعية إلى آفاق أرحب للتأكيد على الحالة الإنسانية (سميت أحيانا التنمية الإنسانية) لتحترم وتركز على الجوانب النفسية للبشر والامكانات النهضوية فيها، والتي يجب أن تصطف في المقدمة بعملية التنمية البشرية، ولهذا تم التأكيد أيضا على دور “التنمية الذاتية” ضمن هذه التطلعات للنهوض بالمجتمع البشري، مما يضع الجوانب القيمية بمكان من الأهمية لا يقل عن تلك المعرفية عند وضع وتنفيذ خطط التنيمة.
إذا فالتنمية البشرية يجب أن تعنى بالنهوض بالحالة القيمية والمعرفية معا لدى المجتمع وليس لدى الأفراد فقط، بما ينعكس لزاما على تحسن أوضاعه الاقتصادية تزامنا مع تحسين الوضع الصحي والاجتماعي والسياسي.
من خلال ذلك تكون مجالاتها:
أولا على صعيد القيم والمبادئ وتكريس الأعراف الإيجابية ونماذج السلوك المفعمة باحترام الإنسان والوقت والعمل والنظافة والملكية العامة، إضافة لاحترام حقوق ووجود الآخرين.
ثانيا على صعيد المعرفة، وهنا نتحدث من جانب عن الثقافة ورفع مستوياتها، ومن جانب آخر عن المهارات والإمكانات المجتمعية بما فيها التركيز على ضفتي التعليم والتعليم المهني، مع التركيز على محورية التعلم الذاتي.
ثالثا على صعيد الخدمات العامة التنموية من صحة وتعليم ونظافة عامة وغيرها، والأطر القانونية والإدارية العامة التي تضع كل ذلك في إطار الحماية والضمان المطلوبين.
إن المواءمة بين كل ذلك يجب أن تنتقل بالإنسان إلى حب المعرفة، ومن ثم إلى مستوى الرغبة في توزيع المعرفة، وصولا إلى تطوير قدراته اجتماعيا على تحقيق الكسب والعيش بصورة أفضل.
في الحروب..
شكلت الحرب دائما تلك المطرقة القاسية التي تدمر القيم وتشوه العلاقات ضمن المجتمع، وتبدأ حتى بهدم المفاهيم الكبيرة الجامعة كالهوية. فيما يتعاظم دور كل ذلك ضمن العامل الزمني، فالوقت يشكل وحده الدافع الطردي لتعاظم حدة الخسارات والتشوهات. تخبرنا التجارب والتاريخ وعلوم النفس والاجتماع بأن الأزمات والحروب لطالما اتخذت شكل الفرص لمن يتمكن من اتخاذ زمام المبادرة فيها، لاستنهاض الهمم التي تكون في حالة استنفار مع ارتفاع معدلات التعاطف، بصورة أكبر منها في حالات السلم والرخاء، مما يسهل الاستثمار في ذلك لتحقيق النهضة على أرضية رد الفعل وإعادة الترتيب والتصحيح.
المجتمع السوري..
من الواقعية بمكان أن نُقِرَّ بأن المجتمع السوري لم يكن استثناء في هذه السياقات، فالشعوب سواء أينما كانت، وهي تمتلك نفس الخصائص ولكنها قد تختلف بالنسب تبعا للظروف التاريخية والمناخية وللواقع الاجتماعي والسياسي.
قد يمتلك المجتمع السوري كعبا أعلى من نتحية التراكم الحضاري في الأرض التي يعيش عليها اليوم، وهو قد أبدى قدرات عالية على التحمل خلال سنوات الحرب، ولكن ذلك لم يتساير مع نفس المستوى من التأقلم الإيجابي مع الظروف القاسية، وهو ما أقصد به القدرة على ابتكار وتطوير الحلول في مواجهة الأزمات، مع تفاوت طبعا في ذلك حسب المناطق والمحافظات، فمثلا أظهر المجتمع السوري في حلب مستويات عالية من المرونة الإيجابية تجاه أزمات المياه والكهرباء والضائقة الاقتصادية، في مقابل مستويات متدنية عند أغلب المحافظات الأخرى. كم أن الكثير من أرياف ومناطق محافظتي حمص وحماه أبدت استجابة عالية في التأقلم مع التوتر الأمني، وطورت آليات دفاعية ذاتية (سرعان ما احتوتها الأجهزة الرسمية) مكنتها من مواجهة القلاقل الأمنية المتنقلة وخروج المناطق المتاخمة لها عن سيطرة الدولة وخاصة في البادية، وهي بذلك تمكنت من الحفاظ على البنية السكانية في مركزي المحافظتين وفي الأرياف المحيطة بهما إلى حد كبير، وهو أمر ساهم بشكل مركزي بالحفاظ على كيان الدولة والمجتمع.
ولكن المجتمع السوري بنفس الوقت أظهر مستويات عالية من ضياع القيم، حيث ولأسباب تاريخية (لسنا بوارد طرحها هنا) إضافة لعاملي الزمن والحصار الاقتصادي الحاسمين في هذا السياق، تراجعت المنظومة الأخلاقية إلى حد صار فيه لزاما التوقف بجرأة واتخاذ زمام المبادرة لوقف مسيرة التدهور.
ماهو الاستحقاق السوري؟!
المجتمع السوري اليوم يقف أمام استحقاقين كبيرين وواضحين هما:
– ترميم منظومة القيم والمبادئ العامة على مستوى الأفراد والمجتمع وبشكل خاص مؤسسات الدولة.
– استعادة قدرة السوريين على الإبداع والانطلاق في العمل وتحقيق الدخل.
إن الاستجابة لهذين الاستحقاقين هي بالضبط مسؤولية التنمية البشرية، فمن هي أطراف هذه التنمية، وما هو المطلوب لنجاحها؟!
إن البيئة المناسبة لتحقق التنمية هي بالتكوين بيئة تفاعلية تشاركية، تندمج فيها جهود ثلاثة أطراف رئيسة يمكن اختصارها بالجهات الحكومية والمؤسسات المدنية إضافة للمجتمع ذاته. وهذا الترتيب ليس عفويا ولكنه يتخذ ترتيبا منهجيا مُستَمدّا من طبيعة الأدوار والقدرات، فالمسؤولية الأكبر والأعلى تقع على عاتق المؤسسات الرسمية صاحبة القوة الأكبر والإمكانات والوسائل الدستورية واللوجيستية، ثم يأتي مستوى مؤسسات المجتمع المدني بمختلف تشكلاتها والتي تمتاز بامتلاكها للدعم وللأسس التنظيمية والمعرفية. يأتي المجتمع وبرغم كتلته الكبيرة بما لا يقاس للمقارنة مع الأطراف الأخرى في المرتبة الثالثة من حيث الكفاءة والمقدرة على لعب الأدوار دون الحاجة للتحفيز والقيادة، فالمجتمع يبقى بحيز المتلقي والمتأثر من قبل الطرفين الآخرين الذين يقومان بتهيئة الأرضية المناسبة لاستنهاض إمكاناته وتوجيهه للقيام بما يتوجب عليه.
لذلك يتعين على البيئة المناسبة أن تبدأ من القوانين الضابطة المانعة للفساد، والمحفزة على العمل والإبداع من ناحية أخرى. بعد ذلك يتوجب الحديث عن البنية التحتية والخدمات والمواد الأولية اللازمة (وتلك كلها بنود يصح أن تكون من آليات وأهداف العمل التنموي)، مرورا بالتأكيد على تقديم التسهيلات التي ترفع العقبات بدل وضعها، بكل ما يلزم ذلك من رفع للوعي والفهم والتأهيل المناسب للكوادر الحكومية المعنية في العمل التنموي (الاقتصاد – التجارة – الشؤون الاجتماعية – الداخلية.. الخ)، فالمؤسسات المدنية تقوم بشكل مستمر بتدريب وتأهيل كوادرها بصورة تتفوق فيها على جانبي المعادلة الآخرين (الحكومة والمجتمع) وهذا بحد ذاته مستغرب ويجب أن توضع مهمة التسويق له في أولويات التنمية على صعيد المؤسسات الحكومية وشركات القطاع الخاص.
ولكن هذا ليس كل شيء..! فالحقوق دائما متلازمة مع الواجبات، لذلك يتوقع من مجمل أطراف المعادلة التنموية إبداء المزيد من الاندفاع والإحساس بالمسؤولية تجاه هذا الاستحقاق الداهم على المجتمع السوري، مع التركيز على محورية مفهوم التنمية الذاتية.. إن ضمان نجاح المشروع التنموي يتطلب اشتراك جميع أطراف المعادلة التنموية، وإذا كان السؤال المحير لعقول السوريين عن “ماهية البداية في إعمار البشر”! فإن المعادلة التالية ستكون حلا مناسبا لها:
إن البدء بإعادة إعمار الحجز بطريقة نزيهة وصادقة، سيكون بداية موفقة لإعادة إعمار البشر.
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب