“التراث الخليجي الذي خسرناه”!.. روعة يونس
من المؤسف، بل المؤلم أن نرى تسجيلاً لفيديو انتشر على “يوتيوب”، وحظي بأعلى نسبة مشاهدة اليوم في لبنان وفلسطين. رافقت الفيديو عبارة ساخرة: “هذا هو التراث الخليجي الذي خسرناه”. محتوى الفيديو عبارة عن فن شعبي لأطفال يافعين بالزي الوطني للخليج العربي (كندورة وغترة وعقال) أحدهم يطلق صيحة، فيرددها أقرانه من خلفه.
يسخر ناشر “يوتيوب”، ضمن حملة تبادل الإساءات والشتائم على خلفيات مواقف سياسية ودبلوماسية! من الأطفال ويهزأ بهم وبصيحاتهم. وكذا فعل المتفاعلون الذين جادت قريحاتهم بكل الأوصاف التي تليق بهم في الواقع (!) لا بهؤلاء الأطفال الذين أطلقوها عليهم.
تلك الصيحة ليست مجرد إطلاق صوت عال! بل هي لغة.. نعم، لغة تخاطب مع البحر، تأتي في بداية “الهولو” واليامال”. إنها صيحات وغناء وأهازيج الأجداد في الإمارات- غواصي اللؤلؤ قديماً، يطلقها النهّام، أي المغني الذي يرافق الصيادين والغواصين في رحلتهم لصيد اللؤلؤ، ويسمى النهّام كاشتقاق من “نهم” صوت الأسد والفيل، لهذا فالنهّام يمتاز بقوة الصوت والأداء، لأن من أدواره العديدة هو “التشجيع وبث الحماسة”.
طبعاً.. لست في معرض الحديث عن تراث البيئة البحرية في الإمارات والخليج العربي. وإنما أسوق تعريفاً بالنهّام ودوره، كي يعي القارئ لماذا أطلق هؤلاء الصغار في “يوتيوب” تلك الصيحات، التي يوازيها في تراث دول بلاد الشام “هيه هيه يا بحر” و”يا مال” و”هيلا يا واسع”. حيث كان أجدادنا يطلقونها خلال قيامهم بصيد الأسماك والنقل البحري من قبيل التصبّر والحماسة. وقد أوردها الأديب السوري حنا مينة في روايته الخالدة “بقايا صور”.
أجد من الصعب هنا غض النظر عن أمر غاية في الأهمية والإنسانية! فحركة الأطفال وصيحتهم في “يوتيوب” إنما هي تقليد وإحياء لتراث أجدادهم الذين كانوا يطلقون هذه الصيحات لبث الحماسة في تحدّ للصعاب وهيجان البحر والتعب والشوق والخوف من عدم العودة إلى أهلهم. إذ يكفي أن نعرف بأن البعض من هؤلاء البحارة والغواصين كانوا يلقون حتفهم في البحر، لكن لم يكن هناك من خيار آخر لهم سوى الإبحار إلى المجهول في عصر ما قبل ظهور النفط، حيث قساوة الصحراء وشظف العيش والقحط والفقر والبعد الجغرافي.
في عودة إلى تسجيل “يوتيوب” رب قائل: ما أدرى من نشره إنه على كل هذه القيمة المعنوية والتاريخية، ويمثل تراثاً يفخر به الخليجي؟
سأقول: لكن الناشر يدري بالأخلاق، ويعرف معنى أن يسخر أحدهم من لباسه وتراثه! وقد يصبر على المساس يشخصه أحياناً، لكنه لا يصبر أبداً على المساس بكرامته الوطنية. فإن كنا لا نفهم محتوى مادة ما، لا نتناقلها بسخرية واستهزاء! ضف أن السخرية -في الحالة هذه- لم تكن من فرد، بل من حشود يمكن اعتبارها تمثل رأي جماعة.
قد أفهم ممارسات بعض روّاد “السوشال ميديا” من فئة المراهقين والمتنمرين. ممن لا يجيدون النأي بالنفس عن أمور سياسية ودبلوماسية قد لا يرقون إلى مستوى فهمها. لكنني لا أفهم كيف يقوم إعلاميون (!) بتناقل فيديو يمس بشعب عربي شقيق، قصد من سبقهم إلى نشره: الإساءة والسخرية. وقد أتفهم وجود العديد من البرامج والاسكتشات والمسرحيات، تعتاش على الطرائف والعجائب والأحداث المضحكة والمواقف الساخرة والغمز واللمز. لكنني لا أتفهم كيف لإعلاميين أن ينحدروا وينحنوا لالتقاط الفتات!
.