التاريخ الغامض للكهنة السلتيين – أقدم الوسطاء بين البشر والآلهة – أوين جاروس .. ترجمة حيّان الغربيّ
لعب الكهنة السلتيون، أو النخبة الدينية في العالم السلتي الغابر، دور القادة في ما يعرف اليوم ببريطانيا وفرنسا، فكانوا “فلاسفةً ومعلّمين وقضاة ومناهل للحكمة العامة حول العالم الطبيعي وتقاليد الشعب. علاوةً على ذلك، كان الكهنة وسطاء ما بين البشر والآلهة” على حدّ تعبير الأستاذ الفخري لعلم الآثار الأوروبي في جامعة أكسفورد، باري كانلايف، في كتابه الموسوم: “الكهنة: مدخل مقتضب” (الصادر عام 2010 عن دار نشر جامعة أكسفورد).
يكاد يكون جميع ما وصلنا عن الكهنة هو معلومات غير مباشرة، فسائر النصوص الباقية حتى اليوم والتي يرد فيها ذكر الكهنة كُتبت من قبل الغير (الرومان بصورةٍ خاصة) مما يمثّل مشكلةً للمؤرخين المعاصرين الذين يسعون إلى فهم الكهنة وتحديد هويتهم وكيفية تغيّر أدوارهم على مرّ الزمن.
لا يستطيع المؤرخون تحديد زمن بداية الكهنوت على وجه الدقة، وقد لفت كانلايف إلى أن أول إشارة مكتوبةٍ إلى الكهنة تعود لنحو 2,400 عام وإن كان مرجحاً أن تاريخ الكهنوت يعود إلى حقبةٍ أقدم.
ويعد يوليوس قيصر من المصادر الرئيسية للمعلومات حول الكهنة، فقد فتح بلاد الغال خلال الفترة ما بين 58 ق.م و50 ق.م وغزا بريطانيا في الفترة ما بين 55 ق.م و54 ق.م.
كتب القيصر في سلسلة من الكتب الموسومة “حروب الغال” أن الكهنة “شاركوا في شعائر مقدسة، وقدموا الأضاحي العامة والخاصة، وقدموا التفاسير لجميع الأمور الدينية”. وفضلاً عن أداء الواجبات الدينية، غالباً ما طُلب من الكهنة تسوية النزاعات “فقد كانت لهم الكلمة الفصل إذا ما اقترفت أي جريمة أو جريمة قتل أو إذا ما نشأ أي نزاع حول الميراث أو تحديد الحدود، وأنيط بهم تحديد الثواب والعقاب” وفقاً لما كتبه القيصر.
كما لفت القيصر إلى أن كل جماعة من الكهنة دانت بالولاء لقائدٍ محدد، وغالباً ما كان تعيين القائد مثاراً للنزاعات المؤدية إلى العنف أحياناً.
وأشار القيصر إلى أن سلك الكهنوت حظر على أفراده تدوين معتقداتهم وتعاليمهم الدينية، فقد أورد أن الكهنة لم يرغبوا “بإفشاء عقائدهم لعامة الشعب”. وبالتالي، كان على أعضاء الكهنوت حفظ معتقداتهم وتعاليمهم عن ظهر قلب عوضاً عن مراجعتها في السجلات والكتب.
إقرأ أيضاً .. ترجمة الأسماء الملكية الأوروبية
ولعلّ علاقة صداقةٍ نشأت بين القيصر وأحد الكهنة، فقد كتبت ميراندا الدهاوس-غرين، الأستاذة الفخرية للتاريخ وعلم الآثار والدين في جامعة كارديف بالمملكة المتحدة، في كتابها “إعادة النظر في الكهنوت الغابر من المنظور الأركيولوجي” (دار نشر جامعة ويلز- 2021): “خلال مكوثه كقائدٍ عسكري في الغال، قابل القيصر ديفيسياكوس زعيم قبيلة الإيدوي البرغونية المتنفذة، وأصبح الرجلان صديقين وحليفين مقرّبين، وقد ذكر الجنرال الروماني أنه يضع ثقته في الزعيم القبلي الإيدوي ويفضّله على زعماء قبائل الغال الأخرى جميعها”. كما ذكرت الدهاوس-غرين أنه على الرغم من عدم إشارة القيصر إلى أن ديفيسياكوس كان كاهناً على وجه التحديد، إلا أن هذا ما فعله رجل الدولة، شيشرون، الذي عاش في الحقبة ذاتها.
نشط الكهنة في بريطانيا وأيرلندا والغال (فرنسا الحالية) وفي مناطق أخرى ربما. عقد الكاتب الإغريقي، ديو كريسوستوم، الذي عاش في القرن الأول الميلادي، المقارنة بين الكهنة من جهة والمجوس والبراهمة في الهند من جهةٍ ثانية: “عيّن السلتيون أولئك الذين يدعونهم بالكهنة- druids، والذين كرّسوا حياتهم للتنبؤ والحكمة بصورةٍ عامة”. كما ذكر القيصر أن بريطانيا شكّلت مقراً للكهنوت، وهكذا اضطر الأشخاص الراغبون بأن يصبحوا كهنةً في بلاد الغال للسفر إلى بريطانيا لتحقيق رغبتهم تلك.
غالباً ما يربط الناس اليوم بين موقع ستونهنغ الأثري والكهنوت، ولكنه تأسس بصورةٍ رئيسية قبل مدة تتراوح بين 5,000 و4,000 عام أي قبل 2,000 عامٍ تقريباً من تاريخ أول توثيقٍ تاريخي معروفٍ للكهنة. ولذلك، يبقى السؤال فيما إذا كان الكهنوت معروفاً عند تأسيس ستونهنغ أم لا بحاجة للإجابة، وإذا كان معروفاً حقاً في تلك الحقبة، فكيف كان شكله؟ أظهر الباحثون الذين حاورناهم ميلاً للشك في هذا الصدد.
تقول كارولين مالون، الأستاذة الفخرية في كلية البيئة الطبيعية والمبنية بجامعة الملكة في بلفاست، إن الكهنوت “لم ينشأ قبل النصف الأخير من الألفية الميلادية الأولى قبل الميلاد، أي بعد زمنٍ طويلٍ من تأسيس ستونهنغ”.
إقرأ أيضاً .. الظاهرة الضوئية ستيف
ويتعذر علينا العثور على أي صلةٍ بين الكهنوت والدوائر الحجرية من خلال النصوص القديمة، فقد “أشار المؤلفون الكلاسيكيون إلى أن الكهنة القدماء قد مارسوا عبادتهم في الغابات فقط، بينما لا تجري الإشارة إلى أي ارتباط بين الكهنوت والنصب الحجرية عامةً أو ستونهنغ خاصة” على حدّ ما أورده مايك باركر بيرسون، أستاذ العصور البريطانية ما قبل التاريخية المتأخرة في كلية لندن الجامعية، في مقال نشر في العام 2013 في مجلة الآثار الدولية.
غير أن المصادر القديمة توفر بعض الإشارات المثيرة إلى الأمور التي كان الكهنة يجلّونها.
فقد ناقش الكاتب الروماني، بلينيوس الأكبر (القرن الميلادي الأول)، الأهمية التي أولاها الكهنة لنبات الدبق واليوم الخامس للقمر: “يتم جمع الدبق في ظل شعائر مترعة بالرهبة الدينية، ويتم هذا بصفةٍ خاصة في اليوم الخامس للقمر، أي اليوم الذي تُستهل فيه شهورهم وسنواتهم وأعمارهم”.
كما كتب بلينيوس الأكبر حول الأهمية التي أسبغها الكهنة على الأضاحي الحيوانية والخصوبة، فقد كانوا “يأتون إلى ذلك المكان بثورين أبيضين مغلولين من قرونهما، ويتسلّق الكاهن الشجرة مرتدياً ثوباً أبيض ثم يقصّ الدبق بمنجلٍ ذهبي يستلمه الأخرون على قماش أبيض، ومن ثم يقومون بذبح الأضحيتين” في أثناء تلاوة الصلوات. ويردف بلينيوس: “هم يؤمنون بأن شرب الدبق يمنح الخصوبة لأي حيوانٍ عاقر فضلاً عن كونه ترياقاً لجميع السموم”.
ليس الباحثون على يقينٍ بشأن مدى انتشار الكهنوت في العالم القديم، ولكن لاشك أنه ازدهر في الجزر البريطانية وبلاد الغال. وقد ادعى القيصر بأن الكهنوت قد جاء أساساً من بريطانيا، التي كانت قبلةً لجميع الراغبين بالتعمّق في دراسته.
كتب القيصر: “يفترض أن المؤسسة قد نشأت في بريطانيا ونُقلت إلى الغال. وبالتالي، تغدو بريطانيا قبلةً للراغبين بدراسة تلك المنظومة وتحصيل معرفة أدق حولها”.
غير أن نشأة الكهنوت في بريطانيا أمرٌ غير مؤكد ولعلّه تأسس في بلادٍ أخرى بعيدة. غالباً ما يجري ربط الكهنوت-Druidism بالسلتيين، وقد عثر على مستوطنات سلتية في الشرق وصولاً إلى تركيا. علاوةً على ذلك، أدى المرتزقة السلتيون خدماتهم في بلادٍ بعيدةٍ مختلفة، بما فيها مصر (في عهد كليوباترا السابعة) ومملكة يهودا.
إقرأ أيضاَ .. جدال الفيلسوف والفيزيائي ..
وليس واضحاً فيما إذا كان باب الكهنوت مشرعاً أمام المرأة، ولعلّ الكهنة شاركوا في طقوس تقديم الأضاحي البشرية، إذ يكتب المؤرخ الإغريقي، ديودور الصقلي، من القرن الأول، أنه على الرغم من الحضور الدائم للكهنة في أثناء تقديم القرابين البشرية، إلا أن من نفذ تلك الطقوس كانوا جماعةً أخرى عُرفت بالعرّافين.
غموضٌ آخر يكتنف مدى تجذّر القرابين البشرية لدى الحضارات التي انتشر فيها الكهنة، فمعظم الوثائق التي وصلتنا من ذلك العصر هي وثائق رومانية، ولربما أبطن الرومان العداء للكهنة والحضارات التي انتموا إليها.
فعلى سبيل المثال، انضمّ الكهنة إلى تمرّد ضد الرومان في جزيرة مونا الويلزية (انغلسي الحالية). وذكر المؤرخ والسياسي الروماني، كورنيليوس تاسيتوس، أن الرومان بعد سحقهم المتمردين عثروا على أدلة دامغة بشأن الأضاحي البشرية. ولكن يحتمل أن هذه المزاعم كانت عرضةً للمبالغة بغية إضفاء صورةٍ سلبية على الكهنة.
كتب تاسيتوس: “تم إلحاق الهزيمة بهم كما دُمِّرَت حقولهم المكرّسة للخرافات والخزعبلات الهمجية. فقد اتخذوا لأنفسهم فرضاً دينياً يقوم على تغطية المذبح بدماء الأسرى والتقرّب إلى آلهتهم بتقديم الأحشاء البشرية”.
وما تزال الأدلة الآثارية بشأن القرابين البشرية لدى الكهنة السلتيين مثاراً للجدل، فرفات الشاب “ليندو مان” التي عُثر عليها في مستنقع شمال غربي إنجلترا تبين أنه تعرّض لعدة ضربات في أواسط القرن الميلادي الأول كما تمت تعريته تماماً إلا من سوارٍ من فراء الثعالب كما أوردت الدهاوس-غرين في كتابها. وبينما تشير التكهّنات إلى أن تلك الرفات قد تكون مرتبطة بقربانٍ بشري قدّمه الكهنة السلتيون، إلا أنه أمرٌ يكتنفه الشك.
حين انتشرت المسيحية في أرجاء القارة العجوز، أخذ الكهنوت السلتي يتلاشى شيئاً فشيئاً. وقد أشار كانلايف إلى أن شكلاً محدوداً جداً من الكهنوت السلتي بقي حاضراً في أيرلندا حتى القرن الثامن الميلادي: “أصبح الكهنة يعدون جرعات الحب ويلقون التعاويذ على نطاقٍ محدود. وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى إحدى التراتيل من القرن الثامن الميلادي والتي تطلب من الله الحماية من تعاويذ النساء والحدادين والكهنة-druids”.
بل يحتمل أن الكهنوت قد استمر حتى القرن التاسع الميلادي، وعلى الرغم من اضمحلاله خلال العصور الوسطى، إلا أنه قد تم إحياؤه في العصور الحديثة. ومع ذلك، يخلص كانلايف وباحثون آخرون إلى أن ثمة فجوةً من ألف عامٍ تفصل بين إعادة الإحياء هذه وأفول الكهنوت السلتي في الزمن الغابر.
*مترجم وشاعر من سوريا