البصمة ..
البصمة .. بسام العطري
يستولي الجشع والطمع على بعض نفوس البشر فيعمي بصيرتهم وقلوبهم عن قيم الحق والخير، ويصبحون أسرى أطماعهم التي تكون في كثير من الأحوال والمواضع أطماعاً غير مشروعة تدفعهم إلى ارتكاب كل ما يخالف الضمائر والشرائع والقوانين في سبيل الوصول إلى أطماعهم، فنجدهم في خاتمة المطاف قد ارتكبوا الجرائم والجنايات بعد أن زيّنت لهم شياطين أنفسهم ما يفعلون.
قبل أشهر قليلة اتصل بي أحد الموكلين في ليلة شتوية شديدة البرودة يطلب لقاءً عاجلاً ليعرض عليَّ أمراً محيّراً له… التقينا صباح اليوم التالي على فنجان قهوة صباحية، وقصّ علي قصته التي تتلخص بأن والدته قد توفيت منذ أسابيع قليلة عن ابنين وثلاثة بنات وبعض الأموال والممتلكات العقارية وأهمها جميعاً منزل فخم في أحد أرقى أحياء دمشق… بعد انتهاء أيام التعزية بنحو أسبوع تقريباً فوجئ الرجل وشقيقاته الثلاث بُمحضر المنطقة التي يقيمون فيها يدق عليهم باب المنزل صباحاً ليبلّغهم مذكرة دعوة لحضور جلسات محاكمة لدعوى أقامها شقيقهم عليهم جميعاً بدعوى تثبيت بيع، وموضوعها الشقة الفخمة التي ذكرناها والتي يزعم أن والدته قد باعتها له بموجب عقد بيع مذيّل ببصمتها.
سألته ببرود (إذ أنني لم أجد بعد ما يثير فضولي المهني) -وماذا في ذلك كثيرون يبيعون ويشترون بعقود بيع ويتراخون في تسجيلها لعدة سنوات؟.
– كلامك صحيح يا أستاذ، ولكن الأمر في حالتنا هذه يختلف جداً لأسباب كثيرة كنا نتحفّظ على البوح بها علناً حفاظاً على سمعة العائلة.
– هل لي بمعرفة تلك الأسباب لأتمكن من الإحاطة بظروف وملابسات الدعوى؟
– طبيعي يا أستاذ أن أشرح لكم كل تلك الأسباب، وأولها أن والدتي كانت ترفض رفضاً قاطعاً فكرة تسجيل أي من الأملاك باسم أحد منا نحن أولادها، وكانت دائماً تردد أنها تريد أن تترك الأمر للشرع والقانون بحيث يحصل كل منا على نصيبه الشرعي والقانوني بالحق دون غبن أو ظلم. وثانيها ما كانت والدتي لتفعل أمراً مثل هذا دون الرجوع إلينا والتشاور معنا أنا وشقيقاتي، وهذا أمر لم يحصل أبداً ولم تأتِ على ذكره لي أو لأي من شقيقاتي. وثالثها العقد المدعى به عقد بيع، فأين الثمن؟ والدتي لم تقبض أي مبلغ سواء كان ضخماً أو ضئيلاً دون علمنا، فكيف ذلك؟ وأخيراً يا أستاذ وهذا هو بيت القصيد، وهو أكثر ما يحرجنا ولا نذكره أمام أحد.. إن والدتي وشقيقي على قطيعة تامة منذ ست سنوات بسبب سلوك زوجته وتصرفاتها معها وموافقته على ما قامت به من تصرفات سيئة مع والدتنا. الأمر الذي أدى إلى حصول القطيعة التامة بينهما وغضبها عليه. وقد ماتت وهي غاضبة عليه وعلى زوجته، فكيف يستوي هذا مع تنظيمها عقد بيع للشقة باسمه؟
اعتدلتُ في جلستي وقد وجدتُ أخيراً ما أثار فضولي المهني وحرَك حماستي لتولي القضية… ارتشفتُ قليلاً من القهوة وأنا أرتب الأفكار في ذهني، وسألته:
– ألم تحاولوا الاستفسار منه عن هذا العقد؟
– كان يتملص من الإجابة دائماً، ويقول لنا إن كنتم لا تصدقونني دعوا المحاكم تفصل بيننا ودعوا القانون يأخذ مجراه ، وإذا كنتم تصدقونني فلا داعي للمهاترة، عليكم أن تقّروا لي بصحة هذا البيع.
– ألم يحدث أي لقاء في السنوات السابقة بينه وبين المرحومة والدتكم أو أية محاولة صلح بينهما أو أي شيء من هذا القبيل؟
– للأسف يا أستاذ أية محاولة معه كان يرد عليها بالشتائم والكلام غير اللائق ، وأية محاولة مع الوالدة كانت ترد عليها بالصمت الحزين والبكاء الصامت. كان جرحها منه كبيراً جداً.
– كيف تعتقد أنه حصل على بصمة المرحومة على العقد إذن؟
– لا أدري قد لا تكون بصمتها أصلاً… قد تكون بصمة أي شخصٍ آخر!
أطرقتُ قليلاً، ثم قلتُ له بعد تفكير: لا أعتقد ذلك! مهما كان غبياً لن يضع على العقد بصمة شخص آخر غير والدتكم لأن الأمر سينكشف على الفور من خلال مضاهاة البصمات التي ستجريها المحكمة التي تنظر الدعوى.. إنما أجبني: ألم يحضر دفن والدته والعزاء؟
أطرق الرجل بخجل وقال: – في الحقيقة يا أستاذ أنه جاء بعيد وفاتها باكياً، وهم يقومون بتغسيلها، ثم رجانا وهو يبكي أن يدخل عليها ليقبّلها ويختلي بها ويطلب منها أن تسامحه على كل ما فعله، وتحت تأثير إلحاحه وبكائه قبلنا ذلك وسمحنا له بالدخول عليها. قلتَ لي اختلى بها؟ فقال: نعم يا أستاذ.. هي في النهاية أمه ولا أحد يستطيع أن يمنعه من ذلك، وخصوصاً أننا ظننا أنه قد عاد إلى رشده وندم على أفعاله، إلى أن فاجأنا بهذه الدعوى.
ابتسمتُ ببرود، وقلت له: وافقتُ على استلام الدعوى ، أحضر شقيقاتك غداً لتنظيم وكالة قضائية.
بعد أن قمنا بتنظيم الوكالة القضائية، حملتُ وكالتي وراجعت المحكمة التي تنظر الدعوى وطلبت الاطلاع على الملف، وتصفحتُ أوراق الدعوى بحرص وعناية وخصوصاً عقد البيع، ثم طلبت من كاتب المحكمة موعداً أستطيع فيه دراسة الملف طويلاً في المحكمة وأمامه بصحبة صديق لي، فحدد لي موعداً في اليوم المخصص للأعمال الإدارية في المحكمة حيث لا جلسات محاكمة ولا صخب ولا ازدحام.
في الموعد المحدد راجعت المحكمة وبرفقتي الصديق الذي اصطحبته معي، وبعد أن أحضر الكاتب ملف الدعوى، عكف صديقي على دراسة عقد البيع بتأنٍ شديد، ثم أخرج من جيبه عدة أوراق رسمية هي عبارة عن وكالات وعقود بيع مذيّلة بنماذج مختلفة لبصمة المرحومة كنتُ قد أحضرتها له بغرض المقارنة للتأكد من أن البصمة التي على العقد المبرز تعود لها، بعد قليل هز الصديق رأسه واقترب مني هامساً يؤكد أن البصمة فعلاً تعود للمرحومة. ابتسمت بهدوء وهمستُ بإذنه بما يجول في خاطري، فاستولت عليه الدهشة للحظات، ثم عاد إلى مكبرته وعكف على البصمة من جديد!
وفجأة بدأ يميل برأسه من عدة زوايا ويقرّب ويبعّد المكبّر، ويغيّر زوايا فحصه بشكل دائري حتى أحاط بكامل البصمة بشكل دائرة كاملة، ثم تحولت ملامح وجهه من الشك إلى اليقين، إلى الانتصار الدامغ، حيث اقترب من أذني وهمس لي بكلمات قليلة، أغلقنا بعدها الملف على إثرها وغادرنا المحكمة.
حل موعد الجلسة الموعودة وجاء الخبير وقدّم تقريره للمحكمة مؤكداً فيه أن البصمة تعود فعلاً للمرحومة، وهنا لم يتمالك خصمنا نفسه فصاح “يحيا العدل” فأسكته القاضي بحزم.
حينها وجدتُ الفرصة التي كنت أنتظرها قد سنحت، التفتُّ إلى القاضي قائلاً: – هل تسمح لي بالاستفسار من السيد الخبير عن بعض النقاط التقنية حول تقرير الخبرة؟ أجاب القاضي: تفضل. استدرت باتجاه الخبير وأبقيت عيناً مفتوحة على القاضي، وسألت:
– حضرة الخبير، لدي استفسار بسيط ، وأرجو أن تعذرني مقام المحكمة على جهلي في بعض الأمور الفنية التي أريد أن أستوضحها… أنت قلت في تقريرك أن البصمة تعود للمرحومة، ونحن على ثقة تامة بصدق كلامك… ولكن من خلال معلوماتي المتواضعة أعرف أنه بدراسة خاصة للبصمة يستطيع الخبير الجنائي أن يحدد بدقة إذا كانت البصمة قد تم أخذها عنوة، فهل هذا صحيح؟
– صحيحٌ تماماً.
– هل قمت بدراسة ذلك على البصمة موضوع العقد؟
– لا .. لأن قرار المحكمة كان تكليفي ببيان مطابقة البصمة لبصمة المرحومة فقط.
– اسمح لي بسؤال إضافي ، بما أنكم كخبراء تستطيعون تحديد عامل الشدة والإكراه المادي والجبر على البصمة، فهل تستطيعون أيضاً تحديد ما إذا كان صاحب البصمة نائماً وأن أحداً قد أمسك بإصبعه وقام بتبصيمه؟
– نعم نستطيع ذلك.
– إذن من باب أولى أنكم تستطيعون أن تؤكدوا فيما إذا كانت البصمة قد تم أخذها بعد وفاة صاحبها أو في حال حياته؟
– بكل تأكيد نستطيع ذلك.
التفتُّ نحو الخصم فإذا بوجهه ممتقعاً. نظرتُ إلى القاضي فوجدته في غاية الاهتمام والمتابعة، فوجهتُ حديثي له: سيدي القاضي ألتمس من مقام المحكمة الموقرة إعادة الخبرة على بصمة المرحومة لمعرفة ما إذا كانت قد أُخذت بعد وفاتها ، لا سيما وأن لدينا شهوداً يؤكدون أن المدعي قد دخل عليها بعد وفاتها بحجة استسماحها وبقي منفرداً بها بعض الوقت.
عارض محامي الخصم في طلبي هذا ، إلا أن رئيس المحكمة رفض معارضته وقرر إجراء الخبرة الجنائية لمعرفة ما إذا كانت البصمة قد أُخذت بعد وفاة المرحومة أم لا.
جاء الخبير في الجلسة الحاسمة حاملاً تقريره معه، ويؤكد فيه أن البصمة الموجودة على العقد هي بصمة المرحومة فعلاً ولكنها اُخذت بعد وفاتها… صاح محامي الخصم طالباً الطعن بتقرير الخبير ومطالباً بإهداره… على حين طالبتُ وبمنتهى الهدوء بإهدار العقد واعتباره غير ذي قيمة قانونية لجهة البيع، والتمست من المحكمة الموقرة إعلام النيابة العامة بالواقعة لتقوم بتحريك دعوى الحق العام على المدعي بجرميّ التزوير واستعمال المزوّر.
.
*محام ومستشار قانوني- سوريا
-لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews