العناوين الرئيسيةالوسط الثقافي

الأديبة غادة اليوسف : بعد المحرقة السورية صرت أنزف شعراً وأواجه الموت بالكتابة

مهمة الأديب ليس الاكتفاء بنقل الواقع بل الارتقاء به

 

الأديبة غادة اليوسف  : بعد المحرقة السورية صرت أنزف شعراً وأواجه الموت بالكتابة
.

“لكل امرئٍ من اسمه نصيب”.. وهذا القول يصح على الأديبة غادة اليوسف ؛ فمن معاني اسم غادة الشجرة الجميلة والمرأة الدقيقة والرومانسية المرحة. واليوسف عوَّدت القارئ السوري على عطائها المميز ومقالاتها الفكرية الوجدانية, حتى نكاد نشعر أنها تتكلم بلساننا أو تتكلم عنّا , وهي المعروفة بثقافتها العميقة وتحليلها الدقيق للأحداث وقراءتها الصحيحة للمستقبل. فظهر ذلك جلياً في كتاباتها الشعرية و النقدية ومجموعاتها القصصية و مقارباتها السياسية والاجتماعية والقانونية . كما كان لتجربتها في مجالي التعليم والقضاء تأثير كبير على نتاجها الأدبي وهي ترى ما يجري من ظلم يقع على شرائح مختلفة في المجتمع وأهمها الأطفال والمرأة.
ظهرت موهبة غادة اليوسف مبكرا , لكنها لم تنشر إلا في وقت متأخر معيدةً الأمرَ إلى عدم الرغبة في الظهور أو الشهرة وانشغالها بحياتها الشخصية المليئة بالتجارب والمعاناة.
الوسط التقت بها وكان الحوار التالي..
.
الأديبة غادة اليوسف
اليوسف في فعالية ثقافية
الأديبة غادة اليوسف
 “موهبة بدأت بقصيدة”
ردا على سؤالنا عن زادها المعرفي وخطوتها الأولى في مجال الكتابة التي غالبا ما تكون جميلة لأنها الخطوة البكر قالت اليوسف:
كنت أعتبر الكتاب صديقي, فأقرأ من مكتبة والدي,  فكنت أجد ما يُمتِّعني ويملأ عالمي وروحي ضمن صفحات الكتب , أكثر من أي علاقة أخرى مع أترابي , وأكثر من ذلك كنت أشعر بالغربة بين الآخرين وأرى في مصاحبة الكتاب وهذه الأقلام أصدقاء حقيقيون لي. أذهب من خلالهم إلى عالم الثقافة والأدب والشعر , ما وسّع الفجوة بيني وبين الواقع , وزاد في اغترابي عن محيطي حتى شبهوني بالأستاذ علم وهو شخصية معروفة في مدينة حمص. فبدأت أكتب لذاتي وأبوح على الورق , بعيدة كل البعد عن الاهتمام بالنشر , أحاور ذاتي على الورق فترتاح نفسي بالكتابة , أدلقُ ما يثقل روحي على البياض على شكل يوميات , وقد حدث أن اضطلع عليها بعض المقربين من الأصدقاء ومنهم من قال “يجب أن تنشري, هذا إبداع حقيقي”.
تتابع قائلة:
“في الصف الثامن كتبت مقطوعة بعنوان ” ثلج” ونُشرت في جريدة حمص المحلية “العروبة” وتعرفت على الشاعر الراحل شكري هلال وكان حينذاك رئيس تحريرها وعرضت عليه مقطوعة أخرى بعنوان “أحبّائي” فأعجبته, وكان الصراع على أشده في ذلك الوقت بين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة,  والشعر الحر ؛ فقال لي “أريد أن أنشر لك قصيدة وأفضل أن تدخلي بقوة عالم الأدب, حين تكتبين الشعر العمودي”.

.

الأديبة غادة اليوسف
بعض من إصداراتها
الأديبة غادة اليوسف
“إصدارات متنوعة”
وحول كتابتها المقالات في الصحف قالت اليوسف:
نشرت أول مقال لي في جريدة النور الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوري عام 2003. ورحبوا بي ترحيبا كبيراً, إذ كنت أكتب بأسلوب خاص بي وأتناول القضايا الاجتماعية والسياسية بقالب أدبي ولغة شاعرية, يغلب عليها طابع السرد القصصي. وفي مجال إصدارات الكتب, نُشر أول كتاب لي عام 2004 وحمل عنوان “رفرفات” وهو مجموعة من مقالات تحاور الحدث الاجتماعي والسياسي بقالب أدبي, وفي العام 2005 نُشرت مجموعتي القصصية الأولى “في العالم السفلي”. ولم أكن أتوقع على الإطلاق الصدى الإيجابي الكبير لدى كبار الأدباء والنقاد , وكُتبَ عنها ما يعادل كتاباً. وتابعت في كتابة القصة فصدر لي عام 2007 مجموعة قصصية بعنوان “على نارٍ هادئة” ثم مجموعة أخرى بعنوان “أنين القاع” وهو من وحي عملي المهني ومشاهداتي عام 2009. وكتاب دراسات بعنوان “ما رآه القلب” عام 2010.
وتضيف قائلة:
في العام 2011 أصدرت كتاب “الأحداث الجانحون يتهمون بين جحيم المجتمع ونار القانون”  قاربت فيه السؤال التالي: لماذا خرج الفتية بالطريقة الدموية العنيفة إلى شوارع الربيع العربي بالطريقة التي خرجوا فيها؟
وفي مجال الشعر صدر لي عام 2013 ديوان “نبض التراب”.  وفي العام 2016 صدر ديواني “نثريات روح” وهو من الشعر الموزون تفعيلة وعمودي, وبعد ذلك صدر ديوان “هي في المشهد الأخير” عام 2017.  وديوان آخر بعنوان “وحدكِ الآن” عام 2019. ثم كتاب “سدنة الاغتراب” وهو رسائل متبادلة مع الأديب والناقد الفلسطيني يوسف سامي اليوسف ونزولا عند رغبته بجمع الرسائل لأنها رسائل أدبية قيِّمة, تتناول قضايا المجتمع والسياسة وكل ما تفيض به روحانا من غربة عن واقعٍ من الصعب جداً أن يتأقلم معه الأديب.  وبعدها صدر كتاب “في وجه التلاشي” وهو مجموعة دراسات نقدية وحوارات خاصة بأعمالي بأقلام عدد من النقاد. ولدي ديوان قيد الطبع بعنوان” لي ضلالي” وأعتقد أنه من أهم ما كتبته في مجال الشعر. ولي روايتان ما زالتا مخطوطتين.

.

الأديبة غادة اليوسف
من نصوصها الشعرية
الأديبة غادة اليوسف   
“النزف شعراً”
وعن سؤالنا لها في أي نوع من الكتابة تجد نفسها أكثر؟ أجابتنا:
بصراحة، لا أعلم تماماً أين أجد نفسي! لكن كما هو واضح في الشعر. ولا أدعي أنني شاعرة رغم صدور أربعة دواوين شعرية لي, لكن وجدتني أهرب إلى الشعر, أنزف شعراً كما لو أنني أنا هذه الأرض. فكل دمعة سكبتها امرأة أو أم أو زوجة أو حبيبة أو يتيم على شهيد أو مفقود, وكل شجرة سُحقت بلعنة الحرب , وكل شرفة دُمرت كنت أنا هي , وحينما دخلت سورية في أتون هذه المحرقة وجدت نفسي مسحوبة كلياً إلى حدث أعيشه كما كل أهل سورية , ولم أعد أفكر لا في قصة ولا في رواية, خاصة وأن الحكاية السورية تجاوزت في ملحميتها ودراماتيكيتها قدرة الأسطورة والملحمة على الاحتمال. فأي قصة ستُحبط في هذا الحدث؛ وستحتاج حكايتنا حتماً لتُروى إلى زمن أبعد من الآن. هذا لا يعني على الإطلاق ألاّ نكتب ما عشناه, وإنما نكون قد دخلنا في خانة التغاضي والحياد, والحياة في معركة الحق والباطل خيانة, ويجب أن نكتب مجموعة الحكايات بكل حرارتها وصدقها ووجعها لتشكل كلاً منها مسيلات تصب في نهر الحقيقة المتدفق على أن نكتب بصدق , لأننا نكتب هنا للتاريخ تجربة وطن وإنسان , تجربة حياة ووجود. وهنا تظهر أهمية الأدب في التأريخ لأنه وعبر التاريخ المكتوب لا نعرف الحقيقة بنصاعتها , أن نكتب الحدث. أن نصون التجربة من مأرب المنتصر حين نكتب التاريخ ومن انكسار المنهزم حين يكتب التاريخ. وهنا , ليس أهم من الرواية والقصة في التأريخ للحكاية السورية , وقد رأينا في المقلب الآخر أقلاما مبدعة تُزور الحكاية – للأسف الشديد-  وعلى ما يبدو ما دامت هناك خنادق لا يتعفّفُ قلم الكاتب من الانحدار إليها فيكون الفرق بين التأريخ الأدبي الحق والتأريخ الأدبي الزّيف.
تسترسل مضيفة:
أمام كل هذه المآسي وما عكسته المحرقة السورية وقد تغلغلت شآبيبها في ذوات الجميع , ودخلت في البيوت تشظياً وصل إلى أسرّة النوم , وما عكسته على المظاهر الشخصية , اشتعلت نيران الشعر مجددا في نفسي فأصدرت ديوان  “نبض التراب” ثم ديوان “وحدك الآن”. ومن خلال عملي في القضاء  (محكمة جنايات الأحداث) كنت أرى اليافعين من الفتية وقد سحبهم شر الشارع وهم متهمون بالمشاركة في أحداث التدمير والقتل , وقد عصفت بهم رياح الربيع الكارثي مستغلة ضعفهم وفقرهم وجهلهم وحرمانهم. كنت أقف على حالات أراهم فيها وقد تحولوا إلى إرهابيين وفي عيونهم قهر الأطفال فكتبت عنهم “الأحداث الجانحون”.
.
الأديبة غادة اليوسف
وفي أمسية شعرية
الأديبة غادة اليوسف
“الواقع أكبر ملهم”
أما من أين تستمد غادة اليوسف أفكارها وكيف ترى مهمة الأديب؟  قالت:
أكتب من وعن الواقع , عن المرأة والطفولة والسجون وكل أصناف الظلم الاجتماعي أو التلعثم في الأداء المؤسساتي للمجتمع سواء في المؤسسة الثقافية والاقتصادية والقضائية وما ينعكس سلباً على الشرائح الضعيفة في المجتمع وأولها الطفل والمرأة, وقاربت كثيراً من سلبيات وأوجاع المجتمع المثقف وازدواجيته بين الطرح والممارسة.
وفي القضاء وقفت على أوجاع ومعاناة هذه الشريحة العمرية الحساسة من عمر الإنسان وهي شريحة الأحداث الجانحون الذين يمثلون درجة الأداء الاجتماعي برمته , وهم العلاقة التحصيلية للأداء الاجتماعي بمؤسساته جميعها ونتيجة الخلل يصبحون ضحية المظالم الاجتماعية والقوانين من فقر وجهل.
تضيف موضحة:
الأديب لا ينقل الواقع كما هو , ليس مهمته تصوير الواقع لأن الجميع يعيش هذا الواقع ويعرفه ويكابده, لكن رسالته ومهمته أن يرتقي بالواقع , وحين يكتب لا يصوره كما هو وإنما يلتقط منه أهم الجوانب التي تشير إلى مكامن الضعف والقبح أو القوة والجمال. فالأديب أشبه بالمصور المحترف الذي يلتقط اللقطة الذكية التي تخدم فكرة يريد إيصالها للمتلقي. وللأدب مجموعة وظائف عليه أن يؤديها ؛ الوظيفة المعرفية والتواصلية والتبادلية والجمالية.

.

الأديبة غادة اليوسف
غلاف أحد كتبها الأدبية
“فكّ شيفرة الحياة”
لماذا تكتب غادة اليوسف في زمن تراجع الاهتمام بالكتاب؟ تقول:
أكتب كما غيري , رعباً من العزلة، إذ ألقي بذاتي القلقة بين أذرع الآخرين استجابة لنداء الروح التوّاقة للانعتاق من وحشتها ومنفاها بنرجسية البحث عن الذات.. والرغبة في التعرّي مما يثقلها. فتهجع في سكينة مؤقتة.. وهدنة هشّة.. تتصالح فيها رحابة النفس مع ضيق الواقع ومحدودية الأشياء, أكتب لأوثق بصماتي ووقع خطواتي لحظة عبوري في الزمن, فأكتب ليكون الغد أقل سوءاً من اليوم.. ولأجعل الحياة أفضل وأكرم وأشرف مما هي عليه الآن.. بإصراري على التمسك بالحلم كقدر لا مفر منه.. وبشغف عميق بالحياة والحرية.. نحن البسطاء الحالمين المعذبين المنفيين في أوطاننا.. المتشبثين بحقنا في الحياة الكريمة.. والذين لا حدود لآلامنا… أكتب لانتزاع هوية قادرة على أن تؤنسن جبروت الوحش الرابض في معبد حضارة السوق المعدنية بثالوثها المدنّس “المال والسلعة والسلاح” ولأفكَ شيفرة الحياة السرية عبر ابتلاء العقل بقلقه وهو يرتطم بالخواء في حمأة لوبانه على الحقيقة المطلقة ليروي عطش الروح، دون أن يصل إلى ما يُشبع مسغبتها, وأمارس طقساً من طقوس المتعة،بالتطهر والتسامي، والتشرّد القدسيّ صوب آفاق الخفايا السرّانية النائية.
وتختتم الحوار بقولها الجميل:
في الكتابة ومعها، تعيد النفس صياغة ذاتها بارتقاء مدارج الخير والجمال، وتزكو وهي تنسكب من أكوار الوجدان لتنسرح في الفضاء الكوني، تغتسل بأشعة الشمس، وتنغمر بومض النجوم. لذا أكتب لأ ستشفي من السأم، وأحتال بالتواصل على العزلة والهجران, و لأقاوم البشاعة بالجمال. والكراهية بالحب. والقلق بالسلام. وأحقق بالبوح بهجتي وغبطتي وسلامي الداخلي… أكتب لأسقي من نزف كبدي قرنفل الكلام، وأنثر ورد الحنين على قبور من أحب , أكتب لأقف في وجه الموت والتلاشي.
.

*كاتبة ومترجمة من سوريا
.

لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews/

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى