إعلام - نيوميديا
اتفاقات التهدئة واستراتيجية ” الإخفاق المتوقع “
د. عقيل محفوض
|| Midline-news || – الوسط ..
الطرفان يقومان بالاتفاق، و”يهندساه” بكيفية تشبه “الفواصم” بحيث ان أي ضغوط أو تفسيرات لبنوده من قبل أحد الأطراف خلافاً لإرادة الطرف الآخر، يمكن أن تقوضه، ولكن من دون قطع الطريق أمام التفاوض مجدداً حول اتفاق جديد.
نتحدث هنا عن استراتيجية “الإخفاق المتوقع” في اتفاقات التهدئة التي تتولاها روسيا والولايات المتحدة في الأزمة السورية، وخاصة الاتفاق الأخير الذي أعلنت عنه موسكو وواشنطن، ودخل حيز التنفيذ في 12 أيلول/سبتمبر الجاري؛ ووافقت دمشق عليه، ثم أعلنت انتهاء العمل به في 19 أيلول/سبتمبر الجاري، بعد يوم واحد من الاعتداءات الأميركية على مواقع للجيش السوري في جبل الثردة في محيط مطار دير الزور.سأذكر باختصار قصة هذا التعبير (الإخفاق المتوقع) الذي أرى أنه يساعد في تفسير تكرار اتفاقات الطرفين على التهدئة بالرغم من فشلها أو إخفاقها المتكرر أيضاً، كيف؟كنت أتابع برنامجاً عن بناء الجسور على قناة “ناشيونال جيوغرافيك”، تحدث عن “الفواصم” التي تُصمّم بحيث تنكسر أو تنقطع عندما تتعرض لمؤثر يتجاوز قدراً أو حداً معيناً، مثال ذلك أغطية علب المشروبات الغازية والفواصم أو الفواصل الكهربائية ودعائم أو حوامل الجسور الخ وهكذا فإن “الإخفاق المتوقع” يعني “هندسة” الأمور على أن “تفشل” أو” تٌخفق” عندما تتعرض لمؤثر يفوق ما هو محدد. وهذا ينسحب على اتفاقات التهدئة المذكورة. توصل الوزيران سيرغي لافروف وجون كيري لاتفاق التهدئة في سوريا بعد مفاوضات طويلة وشاقة، وقد احتفلا به مع الإعلاميين الذين انتظروا ساعات طويلة خروج “الدخان الأبيض” من قاعة المفاوضات، على أمل أن يكون الاتفاق المحتفى به ناتجاً عن تفاهمات صلبة وقابلاً للصمود في وجه تحديات كثيرة وواقع معقد، ولكن سرعان ما تبين أنه مُفخّخ في بنوده الرئيسة، من ذلك مثلاً الخلاف حول:تحديد قائمة الجماعات الإرهابية، وخريطة توزع الجماعات المسلحة، والفصل بين الجماعات الإرهابية وتلك الموصوفة بـ “المعتدلة”، و”تأمين” طريق الكاستيلو في حلب بسحب المعدات العسكرية إلى مسافات متفق عليها بغرض إنشاء “منطقة منزوعة السلاح”، وتحديد آلية الإشراف على الطريق، والمساعدات الإنسانية والإغاثة، وتشكيل مركز مشترك لتنسيق العمليات العسكرية ضد الإرهاب.بعد يومين من الاتفاق قالت موسكو ان واشنطن زودتها ببيانات “غير دقيقة” للتنظيمات الإرهابية، وأن “التحليل الأوّلي للبيانات لم يسمح بفصل المعارضة المعتدلة عن جبهة النصرة”، على حد تعبير المسؤول في وزارة الدفاع الروسية ألكسندر زورين؛ وأن واشنطن غير جادة في دفع حلفائها من الجماعات المسلحة للتمايز جغرافياً عن التنظيمات الإرهابية، أو في ضبط سلوك الجماعات الموالية لها.ورفضت واشنطن من جهتها الاعتراف بأن دمشق التزمت بإبعاد الجيش عن طريق الكاستيلو، وأصرت على وصول المساعدات (من دون تفتيش) إلى أحياء تحت سيطرة الجماعات المسلحة، وأنها لن تنشأ مركزاً لتنسيق الضربات مع موسكو ما لم تصل المساعدات الإنسانية إلى مناطق معينة في حلب. (الميادين، 16 أيلول/سبتمبر 2016)، وزاد جون كيري على ذلك بقوله ان التعاون مع موسكو لن يتم قبل وقف كامل لإطلاق النار من قبل الجيش السوري (تصريحات 19 سبتمبر/أيلول الجاري). وهكذا بدت التجاذبات وردود الفعل، كما لو أن الموقف انقلب بين موسكو وواشنطن من اتفاق إلى خلاف على كل ما اتفقا عليه!وقد وضعت الاعتداءات الأميركية على مواقع للجيش السوري في جبال الثردة قرب مطار دير الزور (بالتزامن مع هجمات لتنظيم “داعش” على المواقع نفسها) الاتفاق المذكور على المحك. ويبدو أن واشنطن أرادت تقويض الاتفاق، ولكن من خارجه، ولم يغير من الأمر شيئاً إعلانُها أن الاعتداءات المذكورة تمت عن طريق الخطأ، بل عزز من قناعة دمشق وموسكو وطهران من واشنطن أرادت تقويض الاتفاق من دون أن تتحمل مسؤولية مباشرة عن ذلك. بل ان وزير الخارجية الأميركي جون كيري حمَّلَ الجيش السوري مسؤولية ما حدث في دير الزور! (تصريحات 19 أيلول/سبتمبر الجاري).مهندسا اتفاق التهدئة (موسكو وواشنطن) عدّا الاتفاق أمراً ضرورياً، ولكن لا يمكن التعويل عليه بالتمام، إذ ان المعول عليه جدياً هو الميدان. وتقول دمشق أن واشنطن تضغط من أجل التهدئة عندما تجد أن الجيش السوري قريب من تحقيق تقدم كبير في الميدان، لتكون التهدئة خديعة لدمشق وحلفائها، وفرصة أمام واشنطن وحلفائها لإعادة تسليح وتنظيم الجماعات المسلحة.وهكذا فقد كان اتفاق التهدئة نتيجة لـ “ميزان المخاوف” أكثر منه “ميزان الثقة” بين الطرفين، و”احتواء” للتهديد أكثر منه “انتهاز” للفرصة؛ وحاول كلاهما ألا يكون مسؤولاً عن الفشل أو الإخفاق، ولسان الحال يقول: ليكن الطرف الآخر هو المسؤول عن الفشل أو الإخفاق. وعليه، فمن المتوقع أن تستمر التجاذبات طالما استمر الطرفان في توافقهما على ضبط تطورات الأمور بينهما في سوريا (وغيرها)، ومن ثم لا تراجع نهائي عن المفاوضات أو الاتفاقات، ولا انخراط جدي فيها أو بمقتضياتها.هذا يعني أن الطرفين يقومان بالاتفاق، و”يهندساه” بكيفية تشبه “الفواصم” المشار إليها أعلاه، بحيث ان أي ضغوط أو تفسيرات لبنوده من قبل أحد الأطراف خلافاً لإرادة الطرف الآخر، يمكن أن تقوضه، ولكن من دون قطع الطريق أمام التفاوض مجدداً حول اتفاق جديد.
موقع الميادين