أنسي الحاج يدعو الكتابة إلى وليمة الخلاص.. بقلم: أحمد علي هلال

|| Midline-news || – الوسط …
وللكتابة أن تساءلنا ونحن نعبر نثر ضفافها، لا سيما وأن الشعر في عالم مختلف نعود لتعريفه باستقراء ما يمر به الشعر والشاعر كما زمن الشعر ، إذ يقول الشاعر الراحل أنسي الحاج: “متكئاً على غوتيه وديستوفيسكي الشعر هو الخلاص/ الجمال سيخلص هذا العالم”.
صحيح أنه كتب ذلك عشية “مؤتمر قصيدة النثر” الذي نظمه برنامج أنيس المقدسي للآداب في الجامعة الأمريكية عام 2006، مقارباً فيها وعيه وفهمه لقصيدة النثر وتحولاتها، مروراً بأنساقها الفكرية وكيف تصبح قصيدة النثر نصاً للحياة، ودعوته فيها إلى أن تقدم وليمة الخلاص، لكن ذلك السياق الذي يستنهض فيه الشاعر أدواته وممكناته أسئلة النقد المحايث لطبيعة الإبداع وتحولاته، لا وقوفاً عند مسألة الوزن والموسيقا، وأمثولات النص النثري الذي يتخطى الوعي وينجز مفارقته هو، بقدر ما يتكلم عن الحاجة إلى النقد بوصفها أشد الحاجات الأدبية إلحاحاً، معتقداً بأن الشعراء هم أنبه النقاد ومثاله على ذلك بودلير.. “كان بودلير الناقد شاعراً معلناً ولكن كم من ناقد معلن هو شاعر سري”.
لكن النقد الذي يتطلبه الإبداع عموماً، هو النقد الذي يصاحب النص ولا يتعالى عليه، وبقدر انفتاح النص على ذات الناقد وموضوعيته، بقدر ما يصبح هذا النص قابلاً للحياة ومستثمراً في الآن عينه وعياً أدبياً متحركاً يخص الثقافة والفكر، قبل أن يختص باللغة وطبقاتها ودلالاتها.
ففي مواجهة الإبداع لا يمكن للنقد أن يأتي بغير أسئلته، أسئلة التجاوز والتخطي، وأسئلة تحليل المكونات النصية والبلاغية لتصبح أسئلة عابرة للإبداع ومقيمة فيه بذات الوقت، فالناقد والمبدع بأفعالهما الحوارية والتي تعني زمن الإبداع المستمر وبانخطافاته المستمرة إلى ما يعني الاحتفاء بالقيمة والجوهر، لا بتوثين الشكل وإعلاء الاسم على حساب التجربة، وسكونية الذائقة على حساب المعرفة، إذ إن الشعر بأصنافه كافة ينجز في الوعي ليعبر “الكم” إلى “النوع” باستعارة الثابت والمتحول تكوينياً وبنائياً.
وهنا علينا أن نقر بمسألة الزمن لأننا حينما نقول بزمن الإبداع لا نعني هنا زمناً بعينه، بل نعني الزمن الذي يجعل من الإبداع خلاصاً بالجمال من جهة، وتجاوزاً لما هو قار في المخيلة الإنسانية لأن الخصوبة هي الدينامية المستمرة للكتابة كما للإبداع، والعلاقة باتت مع قارئ اليوم أقرب إلى عقد اجتماعي مع النص أولاً قبل أن تكون مع الاسم، وبطبيعة الحال ليس الأمر هنا انفصاماً ما بين النص ومبدعه، بقدر ما هو توليد جديد لمفهم العلاقة الأزلية والتي تجعل من الإبداع حاسة جديدة، يمكن لها أن تضاف إلى حواس الوعي وحساسيته المختلفة في مقاربة الواقع ومتعالياته، لا بل أكثر من ذلك في إنتاج الوعي بالنص ليصبح القارئ في النص تماماً وليس على ضفافه وتخومه القصية، فالقارئ المؤول وبالمعنى المعرفي ليس اللغوي فحسب، هو عين النص لينتج داله الفاخر بتعبير الناقد الفرنسي الراحل رولاند بارت، وهذا الدال هو دال جمعي يثريه الذائقة الفردية لينضاف إلى الوعي الممكن الذي يقول بأن النص هو مشترك إنساني، وما الاسم سوى عابر له فكيف إذن سنقيم العلاقة مع الأسلاف، لنصل إلى صوتنا المعاصر إن لم يكن بنداء الكينونة وصوتها الذي يحفر في تلك الأنساق ما يمكّنه الوقوف على أرض النص.
هكذا نفهم الحداثة في عالم متغير ومثالها المركب قصيدة النثر بضراوتها وبطموحها إلى أن تشي لجنودها بأن يجعلوا منها معجزة، في مقابل البؤس واليأس والعجز والاختناق، إنه سحر المعجزة الشعرية الذي حلم به أنسي الحاج وسواه كثيرون.
.