العناوين الرئيسيةالوسط الثقافي

  أربعة أيام قبل القيامة .. “لوفينا” : حين يكتب القلب .. سهيلة علي إسماعيل ..

رواية لغسان أديب المعلم ..

 

ربما لن تكون رواية ” لوفينا” أربعة أيام قبل القيامة، لكاتبها الشاب غسان أديب المعلم الصادرة العام الماضي عن دار سين للثقافة والنشر والإعلام في دمشق هي الرواية الأخيرة التي تمنعها عين الرقيب من التوزيع وتئدها في مهدها. وربما سيحتاج كاتبها إلى جواز سفر لروايته البكر لتتخطى حدود بلدها وتجدَ لها مكاناً لائقاً في مكتبات بلدان أخرى.

تتناول الرواية نتائج الأحداث العاصفة بسوريا عامة ومدينة حمص خاصة بطريقة لم يتطرق إليها أحدٌ من قبل. متضمنة أسئلة عديدة عن أسباب ما آل إليه مصير المواطن السوري. وعن أسباب حرمانه من أبسط مقومات الحياة ؛ كالدواء والغذاء الضرورييْن, وصولاً إلى هدر كرامته وإذلاله وظروفه الصعبة مع حلول وباء كورونا.

أسئلة يتوجه بها الكاتب على لسان بطل الرواية الشاب السوري أمير, ويخبرنا – كقرَّاء- أن الرواية هي لكل توَّاق للحرية, ولكل حالم بطمر الكرامة وجه البسيطة, مستشهداً بما رواه جبران خليل جبران في قصته الخيالية “في حديقة النبي” عن الخوري سمعان الذي كان يحمل السيف والإنجيل بكلتا يديه, حين وجد الشيطان جريحاً مرمياً على الأرض مضرَّجاً بالدماء وسط الغابة، فعالجه بعد أن أقنعه الشيطان بعدم جدوى قتله لأنه إن فعل ذلك وأصبحت الدنيا عامرة بالخير وانتهى الشر فلن يزور أيُّ شخصٍ كنيسته يوم الأحد، لذا عالج الخوري سمعان جروح الشيطان كي يستمر الشّر, ويبقى هو في منصبه متمتعاً بالقيمة ذاتها.

يبدأ اليوم الأول من الأيام الأربعة قبل القيامة المتخيلة في جزيرة “ساو ميغل” البرتغالية الفائقة الجمال, فعالي المقام ودّ, ونتيجة حادث اصطدام بين مكوكه الفضائي وطائرة الهليوكبتر العالق بذيلها منطاد الشاب السوري أمير الهارب من جحيم الحرب في بلاده، فقد حاسوبه الشخصي وهاتفه النقال الذين تضررا نتيجة الحادث, ليجدهما أمير ويسمع الأصوات الغريبة الصادرة عنهما, حيث كانت تصل إشعارات من الملائكة المنتشرين في كل مكان لتخبر عالي المقام ود بأخبار الخلائق, لكن أمير في الوقت نفسه كان غارقاً في حزنه, فهو اليتيم طفلاً, الفاقد لزوجته وطفله قبل الحرب, والمصاب بالرصاص خلالها، والمعتقل لأكثر من مرة بسبب تقارير كيدية.

هكذا, يجعلنا الكاتب نتشوق لمعرفة تفاصيل ما سيحدث, لأنه ورغم حزنه الشديد يأخذ دور المتحكم بمصير البشر على سطح الكوكب الأرضي بفضل ذلك استحواذه على الحاسوب الإلهي والهاتف النقال، فيبادر إلى تشكيل مقر لإدارة عملية التحكم بالعالم والأكوان، بالتزامن مع قدوم أربعة من ركاب الطائرة المتحطمة التي انطلقت من منطقة عوكر في لبنان, يحملون الوباء القاتل, وهم إلياغو عامل منجم نيجيري, وكيودو شاب ياباني محنّك في إدارة الأعمال, ووليم قائد الطائرة وهو رجل أعمال أمريكي وعضو في الحكومة العميقة, والأميرة صوفي الهاربة من بريطانيا بعد انتشار الوباء ضمن أفراد العائلة الملكية البريطانية.

وبين الثابت والمُتخيل انتقل أمير السوري, بعد أن علق منطاده بذيل الطائرة، وتابع مجريات رحلتها دون أن يعلم أحدٌ بوجوده “كان يسترق النظر تارةً لليمين, نحو أوروبا التي كانت حلماً له حين كان يقبع في أقبية الزنزانات، وتارةً نحو اليسار حيث بؤس العالم والقهر” ص(46). ومع ذلك فحبه لبلده ثابت في قلبه كثبات اللون في العلم.

لا ينفك الكاتب في التعبير عن تعلقه ببلده فها هو في رده على صوفي حين طلبت منه أن يحدثها عن بلده يقول:
“أحدثك عن وطني يعني أحدثك عن قلبي, في البدء كانت الكلمة وكانت الكلمة سوريا .. في البدء كانت الجنة وسوريا درّة منها، من ذات جبلة التكوين, صلصال ممزوج من ماء عين التسنيم و تراب سدرة المنتهى, لفحته الشمس بقبلة بعد أن نفخ فيه الله من روحه ورمقها الله بعينه وقال كوني فتكوَّنت, ثم حملتها الملائكة إلى الأرض كمهد طفل ليتلقفها العشاق بقلوبهم وراحاتهم كشاميٍ صغير يقلِّب بين يديه رغيف خبز ساخن” ص( 86- 87).

ولأن أمرَ الحاسوب الإلهي أصبح بيده طلب من الملائكة نثر ذرات الضمير في العالم، فالمواطنون في بلدان العالم الثالث يعانون من ديكتاتورية حكامهم وقمعهم لشعوبهم لاسيما عندما يطالبون بكرامتهم.

ويتابع الكاتب نقاشه مع الناجين من طاقم الطائرة في سردٍ مشوق يروي كل واحد من خلاله قصته ويمنحه دوراً مناسباً لجنسيته, مع الإشارة إلى عدم اتفاق الشاب السوري أمير مع الأمريكي لأنه المتهم الأول والأخير بالعبث بمصير الناس.

وخلال مجريات أحداث الرواية يذكر أمير ما حلَّ ببلده وكيف عُلقت جثة يافع عام 2015 من قبل تنظيم داعش على مدخل قرية تابعة لريف دير الزور على مرأى من نظر أمه بسبب مخالفة بسيطة لتعليماتهم.

ويبدأ الكاتب يوم الرواية الثالث بقول لـ بيلكوفا: “لستَ موجوداً. لدرجة أنك في كل مكان.!” وهو يوم مخصص للحديث عن جمال الطبيعة في الجنة مع صوت فيروز وتغريد البلابل, ووقوع أمير في حب صوفي ورغبته بأن يصبح وطنه سالماً منعماً وغانماً مكرماً كما تقول كلمات النشيد.

نقلِّب صفحات الرواية وكأننا نشاهد فيلماً سينمائياً طويلاً, تنتقل مشاهده بين الحقيقي والخيالي, بين الواقع والأمل المفضي إلى حلم, فوباء كورونا يبدأ بالانحسار كما أخبرته سارة “إحدى الملائكة”, لكنه لم ينجح في إنقاذ بلده من أعمال الشياطين.

نصل إلى اليوم الأخير الذي استهَّله الكاتب بقول للكاتب الفرنسي ألبير كامو: “أسوأ الأوبئة ليست بيولوجية, لكنها أخلاقية..” وهو اليوم الأخير في الحياة, حيث ينتشر الموت في كل مكان, موتٌ أحد أسبابه تاجر السلاح الأمريكي وليم الذي يرى أن السلاح الحقيقي هو السلاح الفكري المسبب للحروب بين بني البشر, مبرراً لدولته أفعالها ومواقفها من بلدان العالم الأخرى, فهي تسير وفق مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”، والأمريكيون يصدقون كل نشرات الفوكس نيوز وcnn, ولكنهم لا يعرفون حتى اسم وزير الخارجية” ص( 221) .

يضع الكاتب شخصيات روايته في حالة من الندم, فنتخيل أن ساعة القيامة باتت قاب قوسين أو أدنى، لذلك يبدأ الجميع باستجداء الشاب السوري ليعيد دورة الحياة عبر الحاسوب الإلهي بالضغط على زر إنتر, وفعلاً يريد أمير إعادة الحياة إلى لحظة قطف التفاحة ليعلن إعادة دورة الحياة بأسمى شعور إنساني وهو الحب, حتى أن اسم الرواية هو جذر كلمة حب باللغة الإنكليزية والضمير “نا” يدل على الجماعة باللغة العربية, على أن تُمنح جائزة لمن يحب أكثر, والله موجود حيث يكون الحب, ولأن الجميع أعرب عن ندمه, فلن يموت أحد بأمر عالي المقام ود الذي آمن بفكرة الشاب السوري عن الحب, وفي النهاية وكإشارة لعودة الحياة, يعود الكاتب إلى اليوم الأول لتُعاد الوقائع ذاتها وهروبه من بلده الذي “تقاسم قهر العالمين مناصفة مع باقي العالم” ص( 244), وكأن كل الأيام السابقة كانت حلماً أو رؤية, ليعود الشاب الهارب إلى بلده بعد أن يعده الإله بقيامتها القريبة.

” أربعة أيام قبل القيامة” .. رواية تُقرأ كما يُسمع لحن موسيقي يهدئ الأعصاب ويطرب القلب رغم الوجع الدفين .

 

*سهيلة علي إسماعيل – صحافية ومترجة من سوريا

 

صفحتنا على فيس بوك

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى