العناوين الرئيسيةالوسط الثقافي

أدب توني موريسون من قضية المرأة السوداء إلى معضلة ذكورية

قبل أقل من ثلاث سنوات رحلت الكاتبة الأميركية  توني موريسون (1931 – 2019)، وسط كآبة عالم كان منشغلاً بعدد كبير من قضايا تلهيه عن الاهتمام برحيل كاتبة تقترب من التسعين من عمرها، إذ حتى جائزة نوبل الأدبية التي كانت موريسون أول  كاتبة أمريكية سوداء تفوز بها، لم تشفع لها وتخص موتها المؤسي بمكانة أولى في نشرات الأنباء، غير أن ما راح يعوض عن ذلك، استعادة النقاد والمؤرخين الحديث عنها بعد حين ولا سيما في عودة إلى رواياتها الكبرى.

كما في وقفات عند أفلام تلفزيونية راحت تستعيد ذكراها، كما في عودة إلى نشاطاتها المتنوعة هي التي خاضت الكتابة الروائية من باب عريض، كما خاضت الكتابة للصغار والكتابة للمسرح وللأوبرا.

خلال النصف الثاني من سنوات حياتها بدت توني موريسون وكأنها تسابق الزمن في محاولة تعويض عما فاتها إنجازه خلال النصف الأول من تلك الحياة، ومن هنا لم تتردد دون تحويل مسرحية “عطيل” لشكسبير مثلاً من مسرحية عن التاجر المغربي الغيور، إلى مسرحية عن زوجته وضحيته دزدمونة.

غير أن الجديد خلال تلك المرحلة الأخيرة من حياة الكاتبة يبقى مثيراً للحيرة في روايتها قبل الأخيرة “وطن” كما سنرى بعد سطور، وقبل ذلك تمهيد لا بد منه.

على اسم السيد القديم

فحين ولدت توني موريسون في مدينة لورين بولاية أوهايو الأميركية، كان اسمها كلوي أنطونيا فونورد (على اسم الإقطاعي الأبيض الذي كان يمتلك جدودها وآباءها ويشغلهم عبيداً لديه)، لكن توني الصغيرة لم تعش حياة العبودية.

ذلك أن والدها كان عند ولادتها قد تحول إلى عامل مصنع، في المقابل وصلتها حكايات العبودية والعبيد من طريق أمها التي كانت تحفظ مئات القصص، وقالت توني دائماً إن معظم ما كتبته ما كان له أن يكتب لولا حكايات أمها.

من هنا يمكن القول إن الأم كان لها دور كبير في توجيه الابنة إلى الأدب ودراسته، وهكذا عند نهاية سنوات الأربعين من القرن العشرين نجد توني طالبة في كلية الآداب بجامعة هوارد، وهي بعد ذلك، انتقلت إلى جامعة كورنل حيث حضرت، سنة 1955، أطروحة عنوانها “الانتحار في أعمال فولكنر وفرجينيا وولف” أما بعد تخرجها فإنها ستبدأ حياتها أستاذة للأدب الإنجليزي في تلك الجامعة نفسها.

اسم جديد

في غضون ذلك تزوجت المهندس هارولد موريسون الذي أنجبت منه ولدين قبل أن يطلقا سنة 1964، أي العام نفسه الذي بدأت فيه مرحلة الكتابة، وحول بداياتها الكتابية هذه تقول توني موريسون “في البداية انصرفت للكتابة كنوع من التعويض عن ذلك التبدل الكبير الذي طرأ على حياتي، لكني بعد ذلك، أدركت أن الكتابة باتت حاجة عضوية في هذه الحياة، بخاصة من أجل التعبير عن احتجاجي ضد الظلم الذي يطاول أبناء جلدتي من السود الأميركيين“.

ولعل من الأمور اللافتة هنا أن تكون كتابة توني موريسون، التي لم تنل بدايةً ما تستحقه من اهتمام نقدي أو جماهيري، قد تواكب مع نوع من التراجع كان يطاول الاهتمام بقضايا السود الأميركيين، بعد فترة الازدهار الكبرى بداية سنوات الستين.

أما روايتها الأولى فكانت “العيون الأكثر زرقة” التي صدرت سنة 1961، وعنها تقول موريسون متسائلة، لماذا كتبتها؟ الحقيقة إنني قبل ذلك بسنوات كنت عملت قارئة مخطوطات لدى الناشر “راندوم هاوس”، ولكثرة ما قرأت من مخطوطات سيئة، قررت أن أجرب حظي في الكتابة لعلي أكتب أفضل وفعلت…”.

اضطهاد مزدوج

منذ روايتها الأولى حددت توني موريسون زاوية تحركها، قضية السود والظلم الذي يعيشونه، ولكن غالباً من خلال التركيز على معاناة المرأة السوداء، ومن هنا كان طبيعياً لروايتها الأولى أن تحكي حكاية طفلة سوداء تحلم بأن يكون لها شعر أشقر وعينان زرقاوان على شاكلة شيرلي تمبل، والواقع أن تلك الرواية جاءت، وإلى حد كبير، أشبه بسيرة ذاتية لطفولة توني موريسون نفسها. غير أنها، في الرواية التالية “سولا”، انتقلت من حكاية طفلة إلى حكاية امرأة سوداء منبوذة تعيش في عزلة تامة عن الناس. ويومها، إذ صدرت هذه الرواية وتنبه النقد الخجول أول الأمر إلى أن الأنثى هي حتى الآن البطلة الظاهرة في روايتي موريسون، تساءل عن السبب، فجاء الجواب من الكاتبة مباشرة، “لأن المرأة السوداء مضطهدة مرتين، مرة لأنها امرأة، ومرة لأنها سوداء”.

واقعية سحرية

ومن الواضح أن هذا الجواب يشكل تمهيداً جيداً لرواية توني موريسون الكبرى، التي جاءت عملاً أدبياً، سيخص بالذكر لاحقاً، حين تمنح الكاتبة جائزة نوبل الأدبية، فتكون بذلك أول امرأة سوداء أميركية تنال تلك التي تعد أكبر جائزة أدبية في العالم، لكنها لم تكن أول جائزة كبرى تنالها… إذ سبقها، وعن الرواية نفسها جائزة “بوليتزر” الأدبية الأميركية الرفيعة، وكان ذلك سنة 1988.

أما الرواية فهي “بيلافد” (“محبوبة” بالعربية)، وهذه الرواية التي تحمل اسم شخصية رئيسة فيها (أو أكثر من شخصية) كانت رائدة حتى في مجال إضفاء مسحة من الواقعية السحرية على أدب أميركا الشمالية، بعدما كانت هذه النزعة من مميزات أدب أميركا الجنوبية.

في اختصار يمكننا أن نقول على أية حال إن المرأة، والمرأة السوداء بشكل خاص كانت هي الشخصية المحورية في معظم روايات توني موريسون ما يضعنا أمام سؤال لا بد من طرحه، لماذا بدلت هذه الكاتبة مسار شخصياتها الرئيسة لتجعل في تلك التي سوف تكون واحدة من آخر رواياتها، “وطن” التي أصدرتها قبل سنوات قليلة من موتها، رواية تدور من حول رجل؟، صحيح أن هذا الرجل أسود بدوره، وصحيح أنه إنما ينشغل منذ عودته إلى “الوطن” بالبحث عن أخته، لكن السؤال يبقى قائماً بالتأكيد، وهو سؤال طرح على الكاتبة فجابهته بإجابة ملتبسة ثم طرحه النقاد على أنفسهم فازدادت حيرتهم!

الجندي والأخت الضائعة

ولعل اللافت هنا هو أن موريسون في تاليتها “اللهم احفظ الطفل”  التي ستكون آخر ما ينشر من أدب روائي في حياتها، عادت إلى المرأة السوداء والاضطهاد الذي تتعرض له، بل عادت إلى اضطهاد ذويها ولا سيما أمها لها كما كان دأبها في رواياتها الكبيرة الأولى، فلماذا كان ذلك “الاستثناء” في رواية “وطن” (2012)؟.

ربما يكون الجواب الذي لم تلفظه موريسون أبداً يتعلق برغبة لديها خفية في أن تحكي عن حرب ما، فالنساء لا يصلحن لبطولة روايات حربية بشكل عام ولا سيما منهن النساء السود، ولما كانت حرب كوريا هي أول حرب وعت عليها بالفعل، اختارت موريسون جندياً عائداً من الحرب الكورية شخصية محورية لتلك الرواية، ولكن هل تراها فعلت ذلك حقاً؟ سنرى، فالجندي فرانك ماني الذي يعود من الجبهة الكورية وهو بالكاد بلغ الرابعة والعشرين، يعرف أن ليس لديه في هذا الوطن (الذي لن يخفي علينا بسرعة كونه يعتبره أسوأ مكان في العالم، سوى أخته) التي ما إن يخرج من مصح نفسي أودع فيه في مدينة سياتل دون أن يعرف لماذا حتى تصله رسائل مجهولة المصدر تخبره أن عليه أن يعثر على تلك الأخت التي تصغره بسنوات، والتي تركها وحيدة حين جند بسرعة وإلا فإنها سوف تموت، كيف؟ ولماذا؟ الرسالة لا تحدد.

بطولة رجالية؟؟

لكن فرانك يصدق التهديد ويجتاز مدينة بعد أخرى قاصداً موطنه الأصلي في ولايته البعيدة وهو لا يفكر خلال ترحاله إلا بأخته، “التي لا شك أن الله قد حفظ لي حياتي على رغم قسوة الحرب من أجلها بالنظر (كما يقول لنفسه) إلى أن الرسالة تربط نجاتها بحضوري”، هو الذي لم ينس أبداً أن سي (وهو اسم أخته) إنما ولدت في قبو كنيسة ما يجعلها من بنات الله، والحقيقة أن تلك الرحلة التي يقطعها فرانك في وطن ها هي الماكارثية والعنصرية تسيطران عليه مسهمتين في جعله ذلك الوطن القبيح، الذي لولا حرص فرانك على العثور على أخته لما عاد إليه!. فهل علينا أن نطرح من جديد ذلك السؤال الذي كثيراً ما طرح حول ذلك التحول لدى توني مويسون ولو لمرة استثنائية من قضية حياة المرأة إلى قضية تبدو متعلقة هذه المرة بحياة الرجل؟، أم علينا أن نتنبه أننا في “وطن” حتى لو كان وجود رجل هو ما يملأ صفحات الرواية على قلتها، فإن هذا الوجود يبقى في نهاية الأمر رهناً بالبحث عن… الأخت الضائعة؟

المصدر: انديبندنت عربية

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى