إضاءاتالعناوين الرئيسية

“يلّي فيه مسلّة بتنغزو”.. د.محمد عامر المارديني

|| Midline-news || – الوسط …

كتبتُ ذات مرةٍ قصةً قصيرة عنوانها ” أبو حديد”، و نشرتُها مباشرة على صفحتي الفيسبوكية التي تسعد دائماً بأصدقائها ومتابعِيها أيّما سعادة.
وبعد ثلاثةِ أيام من النشر اتّصلَ بي نحو خمسةِ أشخاصٍ ، إما بشكل مباشر، أو عبر أصدقاء مشتركين، يلومونني معاتِبين حانقين كيف وصفتُهم هكذا جهاراً نهاراً في متنِ قصتي تلك، عبر مقاربتي لشخصياتهم مع شخصية البطل “أبو حديد”، من خلال استخدامي -على حدّ زعمهم- طرقاً مختلفة من الإيحاءات، أو تسريباً بين السّطور، مستشهِدين على ذلك بذكري إمّا لأسمائهم غير المعرّفةِ، أو لأفعالهم الناقصةِ، أو لمفعولاتهم فينا، أو لتطابقِ مفعولِهم لأجلنا، مع أنني -والله- لم أقصد البتةَ في كتابتي أحداً بعينِه..
إنما حاولت أن أختارَ شخصيةً غريبة مختلفة بأبعادِها الجسمية والاجتماعية والنفسية، لأعرضَ من خلالها ظاهرةَ “آباء الحديد” التي غدت مستشريةً في مجتمعنا، والتي تغوَّلت بشكلٍ غير مسبوق. وقد كان لزاماً عليَّ أن أقومَ بعد اشتدادِ تلك الاعتراضات، بإيقاف نشر تلك القصة مُوَقّتاً بهدف تمحيصِها ومراجعتها من جديد ، فلربما كتبتُ فيها ساهياً بعضاً من الإشاراتِ الواضحةِ لشخصٍ محدّد، الأمرُ الذي قد يجرُّني إلى المساءلةِ و المقاضاة بجرمِ القدح والذمِّ، وهذا ما لا أرغب  فيه على الإطلاق، لأنني واثقٌ بقضاء عادل يُخسّرني قضية كهذه لا محالة.

لكنني في الوقت نفسِه سعدتُ جدّاً بأن قصصي الفيسبوكية صارت تصل مباشرة لمثل هذه الفئةِ من البشر الذين أصبحوا يتابعون كتاباتي أوّلاً بأوّلٍ ، وعلى هذا الأساس صارَ لزاماً عليَّ التفكيرُ مليّاً قبل أن أسارعَ إلى نشرِ أي شيءٍ ، مخافةَ أن أفقدَ برعونتي هذه شرفَ متابعتِهم لصفحتي، وربّما ضياع كرمِ متابعةِ أصدقائهم، وأصدقاء أصدقائهم.

ولا أدري لماذا تذكرتُ في هذا السياق طرفةً سمعتُها منذ فترة ليست بقريبةٍ ، وهي أن سيدةً ضبطَها زوجُها متلبسةً بفِعلِ الخيانةِ مع صديقه في فراشِه، فلم يتمالك ذلك الزوجُ نفسَه، وهجم على ذلك الصديق، فأوسَعه ضرباً حتى أسقطَه مغشياً عليه.

نظرت الزوجةُ شبهُ العارية إلى زوجها مستغربةً منه غضبَه غيرَ المبرَّرِ أشدَّ استغرابٍ ، ومستهجنةً عنفَه المفرط ضد صديقِه وقالت مؤنبةً إياه:

“الله وكيلك إذا بقيت بهالأخلاق وهالعصبية ما رح يبقالك ولا صاحب ! “

وبناءً على ما سبق، وبعد أن قمتُ بإعادة قراءةِ قصّة “أبو حديد” بتمعُّن بالغٍ للمرة المئة ربّما، وجدتُ أنّي لم أقم – وبحمد لله- بجرحِ مشاعر أيّ أحد من قرّائي، و لم أُشِر لا من قريب ولا من بعيد بأيةِ إساءةٍ  إلى أي شخصٍ بعينه، لا بالهمز، ولا حتى باللمز. وعليه فقد قررتُ وعزمتُ أن أعودَ لأنشرَ هذه القصة، حتى لو استاء مني أبو حديد نفسُه! أو جافاني  أصدقاؤه، أو قاطعني أصدقاءُ أصدقائه. ويبقى الحالُ على ما هو عليه، وعلى المتضرّر اللجوء إلى القضاء..
والله الموفق.


“أبـو حـديـد”

كان مساء شتوياً ماطراً يوم استقبل بناؤنا ساكناً جديداً، صخب كبير رافق انتقاله، فقد رأيت عبر النافذة أربع سيارات شاحنة تنقل أغراضه، ونصف باص يحمل عائلته المؤلفة من نحو عشرة أولاد، إضافة إلى سيدتين في الأربعينيات من العمر، يبدو أن إحداهما زوجته، والثانية ربما تكون أخته، أو أختها، أو لعلها زوجته الثانية، والله أعلم..
نظرت من عدسة باب المنزل لأعرف إلى أين ذهاب ذلك الفوج الآدمي، ودعوت ربي ألا يكون بيتهم هو الذي بجواري، لكن دعائي بقي حبيس الفم، فهاهم الأولاد قد اقتحموا باب المنزل المجاور وكأنهم جموع التتار، وها هو الساكن الجديد يقف عند الباب، والذي يبدو أنه ربّ العائلة، يدفع أولاده دفعاً عبر الباب إلى داخل المنزل، ويصرخ فيهم بكل همجية، من دون أدنى اعتبار لمشاعر جيرانه الجدد، الذين من المفترض أن معظمهم قد أوى إلى الفراش ذلك المساء.سمعت وأنا أتلصص مسترقاً السمع إحدى الامرأتين تقول له: “حاج تعّيط أبو حديد، شبَكْ، الناس نايمِة”. يرد عليها على الفور : “ومين حاطّك محامي عن الناس يا خانم، اسكتي بقى“.

وفي هذه اللحظات بدأت مجموعة من الشباب تقوم بإنزال الأغراض والأثاث إلى البيت، والسيد أبو حديد يفيض منه الغضب عند سماعه طرق الأثاث على جدران البناء، فينهرهم بشدة لأن يتأنّوا في نقلها، وهم يقولون له بين دقيقة وأخرى، وبكل احترام: “حاضر معلم، أمرك معلم، على راسي معلم”.

كان أبو حديد في الخمسينيات من العمر، قصير القامة، ذا رأس كبير، أصلع الجبهة، له شعر خفيف على الجوانب، مصبوغ مع شاربه الكثيف بلون أسود قاتم، يلبس طقماً رمادي اللون، ضيقاً على جسمه كأنه قد دُهن به دهناً، وقميصاً أبيضاً شفافاً، ورباط عنق أحمر قان. كان يتحرك منفوخ الصدر، مقوساً ذراعيه على شكل هلالين كأبطال رياضة كمال الأجسام، ثم كان ينفض بين الحين والآخر بعض الغبار عن بنطاله، فيظهر أثناء انحنائه حذاء لماع أسود اللون، ومن تحته جوارب من النايلون ناصعة البياض.

لم تنته الجلبة قبل منتصف الليل، لكنني كنت مستمتعاً كثيراً بلهجة الساكنين الجدد، وبخاصة عندما كان أبو حديد يصرخ بمن حوله. لقد ذكرني حديث جيراني الجدد بمسلسل رمضاني كنت قد تابعته بشغف منذ زمن بعيد، والذي كان يحكي قصة تاجر غني متسلط ومسيطر على جميع تجار السوق، وكان يمنع عن أهل بيته جميع النعم، بينما هو غارق في الموبقات، ثم يهرب ذات يوم ابنه الوحيد، الذي كان يعمل عنده في الوكالة، ليتزوج من إحدى الغجريات الراقصات، إلى آخر هذا المسلسل الجميل. 

وفي صباح اليوم التالي بدأ الضجيج من جديد منذ الساعة السابعة. كنت أسمع صوت الأولاد وكأنهم في شجار، أحدهم قد أخذ الجوع منه ما أخذ، فيصرخ يريد إفطاراً، وآخر ينادي امرأة ما، يبدو أنها الخادمة، كي تكوي له بنطاله، وطفلة تبكي بحرقة، وكبير ينادي أحداً من إخوته ليبحث له عن هاتفه المحمول. هكذا كان الحال، صراخ وعويل من دون أن تفهم تفسيراً لهذا الهرج والمرج.

وبينما أنا أعيش تلك الحال الصاخبة رن جرس البيت، فتحت الباب على الفور باعتباري كنت قريباً منه، فإذا بأحد الشباب يرتدي زياً مموهاً يقول لي وهو يشير إلى باب الجيران: “المعلم عاوزك!!”.أذهلتني طريقة الطلب، لقد كانت جافة للغاية، ومن دون أي صباح للخير، ولا حتى عبارة “يعطيك العافية”. لكنني أجبته على الفور، وبثقة مصطنعة: “ومين المعلم بلا صغرة”. قال لي بصوت خافت جداً كالحشرجة: “ولووو.. المعلم أبو حديد”. قلت له: “روح تضرب أنت ومعلمك، لك هيك العالم بتحكي مع جيرانها، بعدين الله يرضى عليك وعلى معلمك، يلي بدّو التاني بيجي لعنده“. كاد الشاب أن يقع من طوله بعد أن سمع تقريعي له، معتبراً أن ما قلته هو من قبيل التحرش بالشيطان، فغادر مرتبكاً على الفور، وبسرعة البرق، ومن دون أن ينبس ببنت شفة.

وما هي إلا دقائق مضت حتى رن جرس الباب مرة أخرى. انتظرت قليلاً، فإذا بأحد ما يضرب على الباب بكلتا يديه صارخاً: “فتاح الباب يا أفندي، فتاح خيّو؟، شو كنّك طرشان؟“. فتحت الباب على عجل، مذهولاً من تلك الجلبة التي صنعها ذلك الطارق، لأتفاجأ بأبي حديد شخصياً عند العتبة، مكفهرّ الوجه، يكزّ على أضراسه من شدة الغضب،ثم ما لبث أن دفعني بإحدى يديه إلى داخل رواق المنزل، ثم أخذ يشدّ على معصمي بكفه الغليظ، قائلاً لي بلغة مشحونة بالتعنيف: “وهي أجيت يا أفندي براسي لعندك، معلش، كنّك ما عرفتني خيّو؟، أنا جارك الجديد أبو حديد، شو خيّو، شو أنت ما بتشوف تلفزيون؟، على كلٍ لحْمرّقْلك ياها هالمرّة، بسقسماً عظماً إذا بتعيد يلي حكيته للحاجب تبعي لورجيك إيام لسّا ما شفتا”، ثم خرج غاضباً بعد أن كاد يكسر باب المنزل من شدة إطباقه، وحتى من دون أن يترك لي مجالاً لأن أقول أي كلمة. شردت للحظات، ثم ما لبث أن مرّت أمام عيني فجأة شخصية عرائس مضحكة، كان اسمها “كعكي”، ذلك “الكركتر” الأكول في برنامج الأطفال الرائع “افتح يا سمسم” الذي كان يلتهم كل شيء يقدم له بلمح البصر، كعك، بلاستيك، زجاج، نعم، كان يلتهم كل شيء.

وفي المساء أردت الخروج لاحتساء فنجان من القهوة مع صديقي جمال في مقهى قريب من منزلي، فإذا بجاري “كعكي” مرة ثانية عند الباب. بادرته السلام مع ابتسامة عريضة، لكنه أبى أن يرد التحية بمثلها، فانسحبت سريعاً من خلف أكوام الشبيبة التي رافقته، والواقفة بأتم الاستعداد أمام جنابه. تمهل أبو حديد في الدخول إلى سيارته الفارهة، مزهواً بكبريائه، ينظر إلى أعلى الأبنية المجاورة، محاولاً استشعار نظرات إعجاب الجيران المفترض احتشادها عند النوافذ، وهي تنشد مهللة ومرحبّة به، طلع النور علينا من ثنيات البناء.

وبعد وصولي إلى المقهى، والتقائي بالصديق الصدوق جمال، سألته على الفور، وقبل أن نطلب القهوة، إن كان يعرف شيئاً عن جاري الجديد أبي حديد، فلصديقي جمال قراءة طويلة ومتأنية في تاريخ الصفوة من الناس، كما أنه يعرف عن الأشخاص المهمّين الكثير الكثير، وعن هوياتهم، وعن معارفهم، ومن يرافقهم، ومن يساهرهم، ومن يدعمون، ومن لا يدعمون، أكثر بكثير مما يمكن أن تعرفه أي مؤسسة أخرى.“ولووووو” قال لي صديقي جمال مستهجناً سؤالي: ” لك في حدا بالبلد ما بيعرف مين هاد أبو حديد”.قلت له مرتبكاً بعد أن بلعت شيئاً من ريقي: “الله وكيلك ما بعرفه، وهي أول مرة بشوفوفيها”. قال لي صديقي جمال: “الله يرضى عليك،فوراً وأنت راجع، بتْمر لعنده، وبترحّب فيه، وبتعتذر منه عما بدر منك من سوء الملقى ومن نشفان الوش”.قلت له وقد بدا علي بعض القلق: “دخيلك حكيلي عنّه، الله يخلّيك، بدّي أعرف أكتر وأكتر، عن جاري الجديد أبو حديد”. التفت صديقي جمال إلى الطاولات القريبة ليطمئن أن لا أحد يمكنه الاستماع إلينا، ثم اقترب مني وأخذ يهمس في أذني كلمات سريعة جعلتني أبتسم، ثم تابع الهمس وأنا أبتسم،يهمس وأنا أبتسم، إلى أن جاءتني لحظة انفجرت معها ضاحكاً، ما أثار استغراب جميع ضيوف المقهى، معتبرين تصرفي هذا نوعاً من قلة الأدب. توقف صديقي عن الهمس قائلاً باستغراب:” لكْ شو يلّي عم يضحكك يا زلمة؟، الله وكيلك إذا عرف أبو حديد إنك عم تضّحّك وقت جبتلك سيرته بيوديك لمطرح غير الله ما بيعرفه“. قلت له: “طول بالك عليّ يا زلمة، والله ما فهمت عليك ولا كلمة، صرت توشوش بإدني وتكركرني، بس مبيّن من كلامك يلّي ما فهمت منّه شي أنو هالشخص مهم كتير”. وعدت صديقي جمال أنني سأحاول أن أتعاطى مع جاري الجديد بكل الود والاحترام، ولو أن شكله وشخصيته وطريقة كلامه، وكذلك جوًه العائلي، لا يمهّد أبداً لبدء علاقة احترام بيننا. قال لي جمال:”اصطفل حبيبي، والله النصيحة كانت بجمل، وأنا نصيحتي إلك ببلاش”. وبعد ساعة ودّعت صديقي مغادراً المقهى، بعد أن قمنا لاحقاً باستغابة جميع معارفنا المشتركة، وعدت أدراجي إلى المنزل أفكر في كيفية التصرف مع جاري الجديد أبي حديد في ضوء نصيحة الصديق.

وعندما وصلت بيتي سألت زوجتي إن كان أحد ما قد سأل عني، فأجابتني بالنفي. قصصت عليها ما قد حصل معي، فأشارت علي بعدم الاكتراث بما جرى، وألا أسمع نصيحة صديقي جمال قائلة: “أوعك ترتخي، هيك ناس لازم تتجاهلن، ولا تأرجيهم أنك مهتم فيهم، بيقومو بينتفخو أكتر وأكتر”.

وفي الليل ذهبت إلى سريري حاملاً آلة حاسبة،صرت أضرب أرقام صديقي جمال بأرقام زوجتي، ثم طرحت أرقام جاري أبي حديد من أرقامي، ثم عدت لأزيدها، إلى أن انتهت جميع أرقام الآلة الحاسبة متحولة إلى أصفار صفراء، فوضعتها جانباً، ثم نمت نوماً عميقاً كالقتيل.

استيقظت في صباح اليوم التالي عند الساعة السابعة، غسلت وجهي، وارتديت أفضل ملابسي، وعطرت جسمي بأجمل عطر لدي، ومضغت لبان “روح النعنع”، ثم خرجت من المنزل. قرعت جرس باب الجيران الجدد، فإذ بجمهرة من الأولاد يتدافعون عند الباب، كل يريد فتحه، إلى أن استقر الأمر على أكبرهم سنّا وقد تجمع حوله ثلاثة صبيان وابنتان بأعمار متقاربة، لا يتجاوز جميعهم العاشرة. قال لي كبيرهم: “شو بدّك؟، ومين أنت؟”. وقبل أن أقول له أي شيء أمسكت البنت الصغيرة ببنطالي “البيج” ويداها ممرغتان بمربى التوت، أو ربما الفريز ذي اللون الأحمر القاني، ثم أخذت تشدّني للدخول إلى المنزل. جنّ جنوني من منظر بنطالي المطعّم بدبق المربّى، لكن من دون أن أبدي أي مظهر انزعاج خوفاً على المشاعر المرهفة للطفلة البريئة ابنة أبي حديد. سحبت بنطالي من بين يديها الناعمتين، وعدت أدراجي إلى البيت وأنا أسمع صوت امرأة كهلة تصرخ على الأولاد من بعيد قائلة: “لك سكْروا الباب يا عفاريت الجن”.حاولت مسح بنطالي من آثار الدبق لكنّني لم أفلح بتنظيفه جيداً، مما اضطرني لتغيير كامل ملابسي، مرتدياً بنطال “جينز”، وقميصاً “سبور” أبيض اللون، أظهراني بعمر اليافعين.عدت إلى باب الجيران فقرعت جرسه راجياً أن تقر عيني برؤية أبي حديد، فسمعت من وراء الباب سيدة تصرخ بالأولاد ليبتعدوا عن الباب لتفتحه هي.كانت سيدة في الأربعينيات من العمر، ذات شعر منكوش، ترتدي رداء معروفاً باسم “الكيمونو”، زهري اللون. بادرتها على الفور بعبارة صباح الخير، لكنها لم ترد على تحيتي أبداً، لا بأحسن منها، ولا حتى بأسوأ منها. وما إن فكرت بالسؤال عن جارنا أبي حديد حتى بادرتني على الفور قائلة: ” روح يا ابني جيب الخبزات والحليبات بسرعة، ولا تطّول مثل عادتك المقرفة، ترى الولاد ماتوا من الجوع”، ثم “طبشت” الباب في وجهي حتى كاد أنفي يتحطم.صعقني الطلب، وأربكني في الوقت نفسه، فلم أعرف ماذا أفعل!!، هل أخبر شباب أبي حديد أن يحضروا الخبز والحليب؟، أم أنسى كل ما قد حصل؟ وبينما كنت أسائل نفسي، خطر على بالي أن أنتظر أبا حديد من خلف الباب، فبرؤيته ستزول كل الإشكاليات، ولن يشغل بالي أبداً موضوع إحضار الخبز والحليب، وهكذا فعلت. انتظرت، ثم انتظرت، وانتظرت، لكن لا أثر لأبي حديد. مللت الوقوف والانتظار، وقد كان لا بد لي من الذهاب إلى مكان عملي، فقد تأخرت بنحو نصف ساعة حتى تلك اللحظة. لكنني أصررت على الانتظار، فاتصلت بزميلي في العمل طالباً منه أن يقدم لي إجازة ساعية، ريثما أستطيع تكحيل عيني بطلعة أبي حديد.وبالفعل ما هي إلا دقائق حتى خرج أبو حديد يلبس “بيجامة” الرياضة، معطراً برائحة زخمة تشبه رائحة عطر “المشايخ”. بادرته بعبارة صباح الخير فأجابني بكلمة: “نعم، شو بتريد؟”. قلت له: “الحقيقة أنا أجيت لأعتذر عن يلّي بدر مني مبارح من سوء التصرف، لقد كان الأجدر أنّو رحب فيكم، أنتو جيراني الجداد، بدلاً من الطريقة الغليظة يلّي تعاملت فيها معكم”. قال لي: “طبعاً هيك الناس الفهيمة بتساوي”. وبالرغم من أن جوابه كان صادماً لي، إلا أنه أذاب بالوقت نفسه شيئاً من الجليد العالق بيني وبينه. قلت له: “في شي مساعدة بقدر بقدّمها لجيراني الأعزاء؟“. قال لي: “أبداً، ما بريد منكم شي سوى عدم الازعاج،أنا شخص عنده شغل طول النهار، وبتعب بالمكتب كتير، وبريد أرتاح بس أرجع للبيت، عم نبهك بشكل شخصي، ما بدي صوت عالي للتلفزيون، ولا للراديو،ما في قرقعة، ولا فرقعة، هدوء ثم هدوء، مفهوم خيّو”. استهجنت طريقة حديثه معي من دون أن أبدي ذلك على وجهي، فقد أحسست أنه يعاملني كأحد من مرافقته، ولم أعرف لماذا قلت له على الفور: “حاضر معلم”.حاولت أن أنزل الدرج برفقته لألاطفه قليلاً، إلا أن أحد حراسه الشخصيين استوقفني في مكاني ريثما يغادر المعلم أبو حديد. ابتسمت ابتسامة صفراء تعلن قبولي أمر التوقف صاغراً.

عدت ذلك اليوم من عمل مضن ٍطويل، وما إن وصلت باب البيت حتى تذكرت تلك الوصايا العشر لأبي حديد. فتحت باب البيت بهدوء بالغ خشية أن أزعج هدأة جيراننا، ثم خلعت نعلي ومشيت حافياً إلى الداخل تحسّباً لصوت نقر الحذاء على البلاط. وهكذا، حافظت على الهدوء التام في البيت طوال النهار، إلى أن جاء الليل.

وعند المساء جلست وزوجتي في حديقة المنزل نستنشق عطر الليل، مستمتعين بشرب بقية الشاي الذي تبقى عن وجبة العشاء، وقد تبادلنا أحاديث شتى عن العمل والأهل والأصدقاء. وما هي إلا دقائق حتى بدأنا نسمع أصواتاً عالية لمجموعة من الرجال كانت تتوافد تباعاً على حديقة جارنا الجديد. جلس المجتمعون في البداية يتحدثون عن أمور عامة. سمعتهم يتناقشون حول مشكلة انحدار الوعي لدى جيل الشباب، ثم تابعوا حديثهم بعد ذلك عن أخبار السياسة، ثم مالوا إلى حال الاقتصاد، ثم انهوا مداولاتهم ببعض “البزنس” المشترك!! وبعد دقائق أخذنا نسمع طرقاً لنرد الطاولة، رافقه في البداية صوت صراخ، ما لبث أن تحول إلى شجار بين مجموعة رجال، وكأنهم يلعبون الورق، شجار كان قد وصل صداه إلى الطوابق العليا من البناء. كنت أميز صوت أبي حديد وهو يقول لشريكه في لعب الورق: “العمى بعيونك، مية مرة عم علّملك تنزل الختيار السباتي وأنت مثل الأهبل ما عم تفهم”. وشريكه في اللعب يرد: “لا تواخذني سيدي، حقك علي”. قال له: “لَكْ شراب، شراب، برْكي بيتفتّح مخّك، وبتتعلّم تزتْ ورق”.

دام هذا الاجتماع النوعي حتى الثالثة صباحاً. قالت لي زوجتي بعد أن جافاها وأياي النوم: “وبعدين معهن، أيمتى بدنا نندفس وننام، بكرا عنا شغل، أنا رايحة دق الباب عالجيران وبهدلهم”.قلت لها: “أعوذ بالله، بوس إيديك، مشّيها هالمرّة،والصباح رباح، بركي بكرا بحكي مع عمي أبو حديد وبترجاه ما يتأخروا بالسهرة”.

لم تقتنع زوجتي بجوابي، لكنها وافقتني على مضض، وربما درءاً لمشكلة يمكن أن تحصل بين الجارين والناس نيام.

في مساء اليوم التالي تكرر ذلك الاجتماع النوعي، حيث بدأ أبو حديد ورفاقه الحديث عن ظاهرة ضعف حس الانتماء لدى عموم الناس، وفقدانهم الشعور بالمواطنة. لقد كنت أستمع إلى نقاشاتهم وكأنني بينهم، حيث لم يكن هناك حاجة أبداً لاستراق السمع نظراً لصوتهم المرتفع، ثم ما لبث الحديث أن انتقل بعد ذلك إلى مشاريع عائلاتهم لقضاء عطلة الصيف. 

وعندما أصبحت الساعة الثانية عشرة منتصف الليل قالت لي زوجتي: “شوف حبيبي، يا أنت بتروح بتحكي معهم، يا أنا بتصرف لحالي”. وعلى الفور قلت لها: “أوعك تتصرفي من حالك، استرينا الله يخليكي، خلص أنا رايح أحكي معهم”.نقرت على باب جارنا أبي حديد نقراً خفيفاً، لكن أحداً لم يسمع. نقرت مرة ثانية وثالثة، كذلك ما من مجيب. نزلت مسرعاً إلى باب البناء لأسأل جموع الشبيبة مرافقة جارنا عن كيفية الاتصال به بمثل هذا الوقت، فقال لي أحدهم: “ثواني وبخبرك”.وبعد نحو عشر دقائق من الانتظار جاءني الشاب قائلاً: “تفضل يا أستاذ، المعلم جوّا بالجنينة، فوت وحاكيه”.دخلت حديقة المنزل فوجدت مجموعة من الرجال، ارتدى معظمهم ألبسة رياضية. كان بعضهم متحلقاً حول طاولة دائرية يُلعب عليها الورق، وبعضهم الآخر يلعب النرد، بينما هناك اثنان جالسان في زاوية الحديقة يتهامسان، وهما يحتسيان الشراب، وبين ثلّة الرجال كان هناك فتاتان أنيقتان، تلبسان زيّا موحداً، تقومان بواجب الضيافة.وقفت محتاراً بين هذه الجموع، فكيف لي أن أقتنص نظرة من أبي حديد لأعبّر له فيها عن أملي بإنهاء هذه السهرة؟،وأخبره بأن زوجتي منزعجة من أصوات الأصدقاء؟،إلا أن الوضع المعقد لم يكن ليسمح أبداً بطلبكهذا. دفعت بجسمي خطوتين إلى الأمام حتى أصبحت وراء أبي حديد مباشرة، فرأيته يحمل الورق، مغمضاً عينيه يفكّر ماذا يلعب، هل يرمي “ببنت الكبة؟، أم بالأص البسطوني؟، ولا أعرف كيف صرت جزءاً من هؤلاء المتحلقين حول الطاولة؟،وكيف دخلت أجواء اللعبة؟

تحمّست كثيراً، فما كان مني إلا أن همست في أذن أبي حديد قائلاً: “سيدنا، زتلّو جويزة الديناري”. امتعض اللاعبان من الفريق المنافس لأبي حديد من تدخلي السافر في اللعبة. التفت إليّ أبو حديد، ثم رمقني بنظرة تعجب من دون أن ينتبه أنني جاره الجديد. فكر للحظات، ثم قام فعلاً برمي “جويزة الديناري” بناء على نصيحتي، فما كان من شريكه إلا أن رمى “الختيار الكبة” بكامل قبضته حتى كاد يكسر الطاولة، ثم انفجر ضاحكاً وهو يقول: نعيماً يا شباب، خلصت لعبتكم، أكلتو الختيار، انشالله ألف صحة وهنا، بس شو هاد يا أبو حديد، والله إنك معلم، لا والله سيد المعلمين،ماشالله حولك بتفهم بكل شي، بالسياسة وبالاقتصاد، وحتى بالورق، يا أخي شو بدنا بالحكي، معلم “.التفت إلي أبو حديد مستغرباً وجودي بين رفاقه، لكن نظراته كانت ملأى بالثناء على نصيحتي له برمي “الجويزة الديناري”، ثم قال لي مبتسماً بعد أن تذكرني، وبلهجة ترحيبية بالغة غطت على سوء اللقيا الذي كان في سابق الأيام: “يا أهلا وسهلا بالجار، شو جاي تشاركنا القعدة؟، والله باين عليك لعّيب محترف، يالله عالسريع بروك قدامي لنورجي هالصيصان شو يعني لعب التريكس”.لم أملك إلا أن أزحت شريكه، وجلست صاغراً مقابله، أجمع ورق اللعب الذي كان ينثره علينا رجل أشيب الشعر من الفريق المنافس، الذي كان يمصّ من سيجار “هافانا” بثخانة عرنوس الذرة الصفراء.لم يكن أبو حديد من المتمرسين في لعب الورق، لكننا استطعنا سوية، وببعض من التكتيك المدرسي، وبكثير من الحظ، أن نفوز على جميع الفرق المتحدية، بطريقة خروج المغلوب.وعند الثالثة صباحاً استأذنت أبا حديد بعد أن داهمني النعاس، فقال لي: “خيوّ بكرا نحنا عالموعد، أنت صرت شريكي من هلّق ورايح”.

عدت إلى البيت لأرى زوجتي نائمة على الكرسي. أيقظتها لكي تذهب إلى السرير، فقالت لي وهي مغمضة العينين: “شو وينك لهلّق؟، شو كنت عم تساوي عندهم؟ قلت لها: “ما كنت عم ساوي شي،منحكي بكرا، تصبحي على خير”.

وهكذا، أصبحت كل يوم أقضي مسائي بصحبة أبي حديد ورفاقه، فيوماً نلعب الورق، ويوماً آخر نلعب النرد، ودائماً هناك عشاء فاخر، ونادلات جميلات يقمن بالضيافة.

تأزمت في هذه الأثناء علاقتي بزوجتي نتيجة سهري المتكرر، وكنت أتذرع دائماً بأنني لا أستطيع رفض طلب أبي حديد بالسهر، فهي قد عرفت تماماً من هو أبو حديد، لكنها بالرغم من ذلك لم تكن لتطيقه، أو تطيق أحداً من أهل بيته. وكانت كل يوم تشتكي لي ولأمها ولصديقاتها من صخب أهل بيته، ومن رائحة طعامهم، وبخاصة روائح الثوم والبصل، كما كانت كثيراً ما تتأفف من كثرة زوارهم، ودخولهم وخروجهم، من وإلى البيت المجاور، عشرات المرات كل يوم، الأمر الذي بدأ يسبب لها الكثير من العصبية والنرفزة، لكن من دون أن تستطيع فعل شيء، فأبو حديد ليس مدعوماً فحسب، بل إنه بحد ذاته منظومة دعم لا حدود لها.

وفي إحدى سهراتنا شبه اليومية، وقبل أن نبدأ لعب الورق، ناداني أبو حديد جانباً، وسألني مستفسراً عن مؤهلاتي. أخذت أقصّ له عن سيرتي الذاتية، ولكن كان بادياً عليه التململ من كثرة شرحي، فقاطعني على الفور قائلاً: “ماشي،ماشي، يعني ما فهمت، أنت معك بكالوريا، ولّا ما معك؟“. قلت له: “طبعاً معلم”. قال لي: “ما بيكفي،بدّك تخلقلي من تحت الأرض شي شهادة جامعة،وإذا بتدبّرلك شي شهادة ماجستير أو دكتوراه بيكون أحسن بكتير”.قلت له: “يعني ما بيكفّي شهادتك أني لعيب تريكس؟“.أخذ أبو حديد يشهق من كثرة الضحك، إلى أن بان لي جوف فمه، وحجرات أضراس عقله المخلوعة، ثم قال لي: “والله لو كانت الشغلة إلي كان بيكفي، بس للشغلة يلي حاططها بذهني ما بيكفي، الله يرضى عليك بكرا بتجبلي هي يلي مدري شو بيسموها سيلفي”. استدركت على الفور قائلاً له: “قصدك سي في”. قال لي: “سيلفي، سيفي، ما بتفرق، وانشالله بيصير خير. بس مو بكرا إذا صرت شي شغلة مهمة يقوم ينتزع لعبك بالتريكس، بدّي ياك هيك على طول،نمر باللعب”.

بدأ الفرح يدغدغ قلبي، فقلت له: “لعيونك معلم،أحلى تريكس وطرنيب كمان”. ثم التفت إليّ قائلاً قبل أن يغادر: “دخلك بدي أسألك سؤال، شلونك أنت مع النسوان؟، ماشي حالك؟، ولا خروقمثلي؟“. قلت له مبتسماً على استحياء: “النسوان!!،والله بحبهم كتير، بس بحبهم مثل ما بحب أخواتي”. وإذ بوجه أبي حديد ينتفخ كالبالون إلى أن أصبح خمري اللون، وعروق وجهه تكاد تتفسخ، ثم انفجر ضاحكاً كأنه لم يضحك من ذي قبل، ثم قال لي: “الله عليك شو دمك خفيف يا جار، ممتاز، ممتاز،والله أنت الشخص يلّي عم ندوّر عليه”.

عدت إلى البيت مستبشراً، فرحاً بحديث أبي حديد، فقصصت ما جرى على زوجتي، فإذ بوجهها يتورد، ولسانها يطرى، ليصبح أكثر نعومة، فتسألني: “دخلك شو قصده بهل حكي؟. قلت لها: “والله ما بعرف، بس الهيئة مخبيلي شي شغلة حلوة”.

وفي اليوم التالي استيقظت باكراً، لم أسمع كالعادة صخباً بالبيت المجاور. اقتربت قليلاً من باب بيت أبي حديد أسترق السمع، لكن لا حياة لمن تنادي.نعم، على ما يبدو أن لا أحد في البيت. خرجت من البناء لأسأل شباب أبي حديد عنه، لكنني كذلك لم أجد أحداً منهم. قلقت كثيراً، ما الأمر يا ترى؟

وبينما أنا في حيرتي هذه، إذ بعامل التنظيفات المسؤول عن نظافة حارتنا يمر بقربي، فبادرته قائلاً: “صباح الخير حبيب، دخلك شفت شي حدا طلع من بنايتنا اليوم الصبح؟“. ابتسم صديقي عامل التنظيفات وهو يقول ساخراً: “والله ما كان في غير زبالة بنايتكم هي يلي طالعة، وطالعة ريحتها كمان،أخدتها وزتيتها بهديك الحاوية المصدّية، هنيك ورا هديك الشجرة (مشيراً إلى حاوية حديدية كبيرة صدئة تفوح منها رائحة نتنة)، وإذا ضايعلك شي روح فتش عليه هنيك”. ودعت صديقي عامل التنظيفات، وعدت أدراجي إلى البيت خائباً.

” قوم حبيبي،قوم، شراب قهوتك،يالله، تأخرت على شغلك”، بهذه العبارات أيقظتني زوجتي من الحلم العظيم، حلم مجاورة أبي حديد، وحلم المنصب المشرف الذي كان قد وعدني به.

نعم، لقد كان حلماً مثيراً، لعبت خلاله أكثر من” 50 برتية تريكس، و20 برتية محبوسة”، “برتيات” لم تكن زوجتي لتسمح لي أن ألعب خمسة منها في اليقظة.

 

*أديب وكاتب.. وزير التعليم العالي السابق- سورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى