أبناء عدم الانتظار!؟ .. د. نهلة عيسى ..

أبناء عدم الانتظار!؟ ..
يبدو السوريون على غير عادتهم, خارج كل ما يجري على الساحة الدولية, إذ يبدو أن لا شيء مما يحدث في العالم, وخاصة في أوكرانيا, رغم أهميته البالغة، إضافة لردود الفعل الموضوعية والمتشفية عليه في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، يغريهم بالمتابعة أو حتى الفرجة، لأنهم يرون فيه ملامح “فوتوكوبية” لما جرى في بلادنا، رغم اختلاف الدوافع والأهداف، ولأنه – كالعادة – غُيبت الأسباب الجوهرية لما حدث، ودخلنا دائرة الطغيان البصري، فتصدرت الصور, والقصص عن الصور .. المشهد، والعالم الآن في الواقع يتابع الصياغة الشعبوية “التبسيطية” العصرية لقصة سندريلا وحذائها المتروك كنداء استغاثة موجه إلى الأمير، حيث الخالة (زوجة الأب في القصة القديمة) مجرد فرد، وحيث كل الفاعلين الدلاليين في الصياغة العصرية مجرد أفراد!! فيصبح الانتصار سهلاً، وتتزوج الفقيرة الأمير كترضية للمتابعين، لينقلب المشاهدون إلى متابعة روايات جديدة، كل من يموت فيها, يموت لسوء حظه, هل أخبرتكم يوماً أن “الوفرة تعني اللا معنى”!؟.
لا شيء مما يحدث في العالم يدفع السوريون للفرجة!؟ فأكثر من عشر سنوات قبح في وطنهم حولت كل نار العالم في نظرهم إلى قمامة كلام، ورماد، والمخيف في الرماد أنه كائن حي مثله مثل النار، بل يفوقها خطورة لأنه – على عكس النار الهوجاء – هو كائن حي ليس لقيطاً، يعرف أباه وأمه، ويحمل ذاكرة، والمشكلة أن ذاكرته مريرة، ولكنه يجيد الخداع، واسألوا الجدات، سيقلن أنه واحد من أفضل الأدوات في إزالة الأوساخ، رغم أنه مجرد وسخ نار.. أعود فأذكر: البصر ليس منجاة من العمى!!.
لا شيء مما يحدث يغريهم بالمتابعة!؟ فها هو السيد كورونا يغادر المسرح مكرهاً، لأن حكاياته المثيرة المرعبة لم تعد تثير أحد. وفي عالم الفرجة، أهمية القصة ليست مرهونة بالحقيقة، ولا الخطورة، ولا بحجم المتضررين، ولكن بنسب المشاهدين؛ وبوتين في موازاة بايدن يتصدران الشاشة الآن، مع التنويه إلى أن “أوكرانيا” مجرد توطئة للحكاية، وتفصيل صغير، كومبارس، وباب إلى العالم المسحور حيث الحيتان، والديناصورات يتصارعون، والأرانب يتفرجون بانتظار ظهور البطل.. والسوريون ليسوا في انتظار بطل، ولا يبحثون عن بطل، ويكرهون سندريلا وحذاءها وأميرها، ويمقتون الأحصنة البيضاء، والأساطير الشعبية، وسير الزعماء، وحكم الأولين والمحدثين، وقاعات الشرف، وباقات الزهور، والأوسمة على الصدور، ويقفون ربما لوحدهم, بانتظار من لا ينتظرون بطلاً!؟
لا شيء مما يجري في الكون كله يغري السوريون بالمعرفة!؟ هم في حالة التعرض غير المباشر للأخبار والأحداث، ويمكنكم تسميته بالقسري، لأن الكاميرات والشاشات باتت جدران، وأجهزة هواتفنا المحمولة صارت أشبه بالأمهات تملين علينا قواعد السلوك، ومن نرافق ومن نعادي، وما هو مقبول وما هو غير مقبول. تمجدت أمهاتنا البيولوجيات اللواتي في السماء وفي الأرض، فقد كن ينمن – على الأقل – لبضع ساعات، بينما أمهاتنا الالكترونيات لا ينمن ولا يسمحن لنا بالنوم، ولا يسمحن لنا بالتجربة المباشرة لنعرف هل نحن نمثل، أم أننا نعيش!؟.
حقاً لا شيء يغري السوريون بالمعرفة، ولا يريدون أن يعرفوا إلى أين ستؤول الحكايات، ففي الصياغات العصرية لوقائع الحياة ليس هناك من نهايات، بل متاهات تقود إلى متاهات، وروايات محدثة لمرويات، و”غودو” المُنتظر منذ عقود لم يأت ولن يأتي، كل ما حدث أن أعداد المنتظرين قد زاد، وربما لم يعد الانتظار بأمل الخلاص، بل بأمل الفضول، المتعة، الفرجة، والسوريون ليس لديهم فضول، وعلى ما يبدو باتوا يكرهون الفرجة، ويعرفون أنهم لن يعرفوا الحقيقة، لأن الحقيقة بمليارات الوجوه، ولذلك لا ينتظرون سوى من لا ينتظرون شيئاً، لأن هؤلاء وحدهم من يصنعون حقاً الحكايات، بل ربما هم كل الحكاية.
*أستاذة جامعية – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب